تفسير سورة عبس
الآيـــــات
بسم الله الرحمن الرحيم
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (
وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
التفسير :
غيّر النبي وجهه ، وقطب جبينه ، وأعرض عن الأعمى ؛ لما جاءه يسأله ؛ ليعلِّمه . وكان ذلك انشغالاً من النبي بدعوة بعض كبار كفار قريش .
وما يخبرك أيها النبي ، أن هذا الأعمى يتطهر بما تعلمه من القرآن والسنة . وما يُعلمك أنه يتعظ ، وتنفعه الذكرى منك .
أما من استغنى بماله ، وشرفه ، ومكانته في قومه ، عن الإيمان وعبادة الله ؛ فأنت تتعرض له ، مقبلاً عليه ، وما عليك ولا يضرك إن لم يتطهر من كفره وذنوبه .
وأما من جاءك ساعياً وراءك ؛ ليتعلم دينه ، خاشياً ربه ، خائفاً من عقابه ؛ فأنت تتشاغل عنه بغيره من المعرضين عن دينك .
كلا ! فلا يصدر عنك مثل هذا الفعل مرةً أخرى ، فإن هذه عظة لك ، وينتفع بها غيرك ممن شاء أن يتعظ بمواعظ القرآن .
وهذه الآيات القرآنية وما فيها من عظات ، مكتوبة في صحف مكرمة عند الله تعالى ، عالية القدر ، مطهرة من الدنس والزيادة والنقص ، كتبت بأيدي ملائكة سفراء بتأدية الوحي إلى رسول الله ، وهم كرام على الله ، بررة مطيعون له سبحانه في أمره ونهيه .
بعض الدروس من الآيات :
محبة الله لرسوله محمد ومعاتبته له في هذا القرآن ، وكون هذه المعاتبة في هذه الآيات عظة وذكرى ، فهل نتذكر و نتعظ ؟ ونخالق الناس كما قال رسول الله في حديث أبي ذر : ( اتَّقِ اللَّهِ حَيْثُمَا كُنْتَ وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ ) رواه الترمذي والحاكم (حسن) ؟ .
1- أخي المسلم : إن الانبساط إلى المسلمين بالوجه الجميل والبسمة ، مشروع .
فهل تكون مبتسماً في وجوه إخوانك ؟ باشاً لهم ؟ لتسعهم بأخلاقك ، وتحصل على أجر عظيم ، فقد قال في حديث أبي ذر : (تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ .... الحديث) رواه الترمذي وابن حبان (صحيح) .
2- أخي : رحِّب بأخيك ، وإذا كان إنما جاء طالباً للعلم ، فقل له : مرحباً بوصية رسول الله . وأفته إن كان مستفتياً وعندك علم بذلك . فقد قال رسول الله في حديث أبي سعيد : ( سَيَأْتِيكُمْ أَقْوَامٌ يَطْلُبُونَ الْعِلْمَ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَقُولُوا لَهُمْ مَرْحَبًا مَرْحَبًا بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْنُوهُمْ ) رواه ابن ماجه (حسن ) . اقْنُوهُمْ : عَلِّمُوهُمْ .
3- على العالم أن يسوّي بين الناس في إبلاغ العلم ، الشريف والوضيع وغيرهم . والله اعلم .
الآيـــــات
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
التفسير :
لعن الله الكافر المكذب ! ما أشد كفره وتكذيبه بالله ورسوله !
من أي شيء خلقه ؟ إنه من نطفه )ماء مهين ( فقدر أجله ، ورزقه ، وعمله ، وشقاوته وسعادته ، وكل ما يتعلق بحياته وموته ، ثم سهل خروجه من بطن أمه ، ويسر له أسباب الحياة ، وجعل له ديناً يًسراً بيناً ، سهلاً عليه عمله ، ثم توفاه وأمر بأن يقبر ويدفن في الأرض ، ثم إذا شاء الله بعثه بعد موته للجزاء والحساب ، كلا ! ردعاً وزجراً ؛ فإن أحداً لا يقضي ويأتي بما افترضه الله عليه ، إلا القليل الذي وفقه الله .
فلينظر الإنسان نظرة التفكر إلى طعامه . فمن الذي خلقه له ، وجعله أصنافاً وأنواعاً في لونه ، وطعمه ، وذوقه ؟
أنا صببنا الماء من السحب على الأرض ؛ فأنبتت من كل زوج بهيج ، ثم شققنا الأرض فدخل الماء فيها وسكن بها ؛ فأنبتنا في الأرض الحبوب ، وكل أغذية الإنسان ، وأنبتنا فيها عنباً ، وبرسيماً غذاءً للحيوان ، وزيتوناً ونخلاً ، وحدائق كثيرة الأشجار ، ملتفة الأغصان ، وفاكهة من كل ما يتفكه به من الثمار ، وأبّا وهو ما أنبتت الأرض مما تأكله الدواب من الحشائش وغيرها . وكل ذلك منفعة لكم ولأنعامكم ، وهي نعم كثيرة
وفيها من المنافع ما لا يحصيه إلا الله ، فهل تشكرون المنعم بها ؟ وتعبدونه وحده لا شريك ؟ أم تخالفون أمره ، وتعرضون عن دينه ؟ .
بعض الدروس من الآيات :
1- أيها العبد : إن الكافر جحود لنعم الله ، فهو لا ينظر فيها ولا يتفكر ؛ ولذلك فهو ملعون .
أما المسلم ، فهو الذي يتفكر في هذه النعم ، ويشكر الله الذي أنعم بها عليه ، ويقبل على ربه ، حامداً له وذاكرا . فاحرص على ذلك .
وقد قال في حديث أنس : ( إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنْ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ) رواه مسلم .
2- أيها العبد : ذكر الله في هذه الآيات القيامتين :
أ- الأولى : القيامة الصغرى : وهي موت العبد (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ) .
ب- الثانية: بعثه للجزاء والحساب وهي : القيامة الكبرى (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ).
وقد قال : (وَلَيْسَ مِنْ الْإِنْسَانِ شَيْءٌ إِلَّا يَبْلَى إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ الذَّنَبِ وَمِنْهُ يُرَكَّبُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رواه الشيخان من حديث أبي هريرة .
3- هل قمنا بقضاء ما أمرنا الله به ؟
يا أخي : احرص أن تكون قائماً بكل ما أمرك الله به ، تاركاً مانهاك الله عنه ، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك . والله الموفق .
4- الفواكه فيها فوائد كثيرة للجسم ، ففيها (الإنزيمات ) وكذلك في الخضروات الطازجة .كما يوجد في الفواكه والخضروات فيتامين ( أ ) على شكل مادة (الكارونين) التي يحولها الجسم إلى فيتامين ( أ ) .
الآيـــــات
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
التفسير :
فإذا جاءت القيامة التي تصخ الآذان حتى تكاد تصمها ، يوم يفر المرء هارباً من أخيه ، ومن أمه وأبيه وزوجته وأولاده ؛ لما يرى من الهول العظيم والخطب الجليل .
لكل امرئ منهم حال تشغله بنفسه فلا يفكر في غيره .
وجوه المؤمنين يوم القيامة مضيئة جميلة , فرحة ضاحكة مستبشرة بكل خير وسرور ، ووجوه الكافرين عليها غبار وسواد وذلة ، وحزن وظلمة . فأصحاب هذه الوجوه المغبرة المظلمة هم الكفرة بالله ورسوله ، المعاندون للحق والهدى ، السائرون في طريق الضلالة والباطل .
بعض الدروس من الآيات :
1- إن القيامة إذا قامت ؛ هرب كل شخص من أقربائه ، وأولاده ؛ لأنه في هموم تشغله عن غيره ، حتى إن أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام ، إذا طلب إليهم الشفاعة ، يقول كل واحد منهم : نفسي ! حتى إن عيسى يقول : " لا أسأله اليوم ، إلا نفسي ، لا أسأله مريم التي ولدتني ".
فيا أيها العبد : هل تفكرت في ذلك ؟ و استعددت لذلك اليوم بالإيمان ، والعمل الصالح ؟
2- إن هول الموقف يوم القيامة شديد ، فمن يستعد لذلك الموقف العظيم ؟ .
ومن شدة ذلك الموقف ، ما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله قال
: ( قَالَ يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا فَقَالَتْ عَائِشَةُ فَكَيْفَ بِالْعَوْرَاتِ قَالَ
{ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ) رواه النسائي (صحيح) وبعضه في البخاري . وفي لفظ : قالت عائشة رضي الله عنها : ( فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ فَقَالَ الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَاكِ ) البخاري .
3- إن المؤمنين يتفاضلون في الجمال ( في الوجوه ) إذا دخلوا الجنة ، كما قال في حديث أبي سعيد : ( أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالثَّانِيَةُ عَلَى لَوْنِ أَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ.... الحديث ) الترمذي وأحمد (صحيح) .
وفي حديث أبي هريرة قوله : ( أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى آثَارِهِمْ كَأَحْسَنِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً .. الحديث ) رواه الشيخان .
فيا أخي ، اجتهد أن تكون من الأوائل ، فإن فضل الله واسع .
4- إن الكفر هو الخسارة العظيمة ، والقبح في الوجه والعمل والقلب . وإن الكافر يأتي يوم القيامة وعلى وجهه الغبرة والقترة ، وقد قال في حديث أبي هريرة : (يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ ....الحديث ) البخاري . فعلينا أن نبين للناس النتائج التي تكون يوم القيامة للكافر والمسلم ، في المصير ، وفي الهيئة ، والأمور المفرحة والمحزنة ، والنعيم والعذاب ، والجمال والقبح ، وغير ذلك مما ورد في القرآن والسنة . وهل يقوم الدعاة ببيان ذلك للناس وشرحه حتى يتعظ من دعي إلى الإسلام ؟ والله الموفق .