جاء البيان الختامي لمؤتمر القاهرة البارحة ليبدّد كل المخاوف، وينفى كل الاتهامات التي كيلت ضده فيما يخصّ موقف المجتمعين من قضايا رئيسية كمصير النظام والحوار معه والموقف من الجيش الحر. وكانت الوثيقة التي خرجوا بها هي الأفضل والأشمل التي تصدر عن المعارضة منذ انطلاق الثورة، وبذلك شكّل هذا المؤتمر فرصة مواتية جداً لحلّ عقدة المعارضة السورية وتوحيد صفوفها لتخرج برؤية جامعة تضع العالم أمام مسؤولياته الأخلاقية والسياسية، وتسحب الذرائع التي ما انفّكت القوى الكبرى تتخذها كدريئة للتهرب من التزاماتها تجاه الشعب السوري. لكن كالعادة، وللمرة الرابعة على التوالي يصرّ قادة (بعض) أحزاب المعارضة الكردية على وضع العصي بالعجلات وتحديداً في اللحظات الأخيرة التي تسبق كل اتفاق للمعارضة، وبشكل يفتح الأبواب على مصراعيها أمام تساؤلات كبيرة وخطيرة:
ما الذي يريده هؤلاء حقيقة، ولماذا هذا الابتزاز الرخيص، وهل إنهم فعلاً يشعرون بآلام أخوتهم السوريين، وبحماوة الدم الذي يُسكب كالأنهار في كل جنبات البلاد، ولماذا يصرّون ويتقصّدون في كل مرة تفجير قنبلتهم في اللحظات الأخيرة التي تسبق أي اتفاق، وتحديداً عندما تكون وسائل الإعلام حاضرة لتسجيل لحظة توحّد المعارضة السورية، والعالم كله مترقّب لما سيخرجون به، هل إنهم يرونها الفرصة السانحة لاصطياد اللحظة التاريخية لتدويل قضيتهم، وماذا يعني إصرارهم منقطع النظير على توثيق وجود (شعب كردي) مختلف عن الشعب السوري على الأرض السورية...؟!!
كنت أتحدث مع بعض الأصدقاء الأكراد المنضوين تحت لواء الثورة عما حدث في القاهرة، وقد أبدوا استهجانهم الشديد لما فعلته الأحزاب الكردية باسمهم هناك، وقبلها في اسطنبول، وقد شرحوا القصة كالتالي:
"معظم هذه الأحزاب المتنافسة فيما بينها على الشعبية والتمثيل بين صفوف الأكراد (16 حزباً في القامشلي وحدها) ليس لديها شيء تقوله لجمهورها سوى بيعهم الأحلام والوهم ومداعبة مشاعرهم القومية، بل إن فصائل من بعض تلك الاحزاب ذاتها هي من تقوم بقمع المتظاهرين الكورد في القامشلي وعفرين لأنها تعلم يقيناً أن النظام السوري إذا اضطر بمرحلة ما فإنه سيفاوض على الورقة الكردية ضمن تسوية اقليمية كبرى تحافظ على نظامه، أو على الأقل لمجرد إزعاج خصمه التركي وخلط حساباته، لكن الكورد بمعظمهم لا يهمهم بعد الثورة إلا ضمان الاعتراف بوجودهم وحقوقهم كسوريين والتي يعتبرون نظام البعث قد سلبهم إياها، ولا صحة لما يشاع أنهم يريدون الانفصال، لكن بعض الأحزاب الكردية هي من تزيّن لهم الأمر تحت شعارات شتى، وهي من ترفع أعلام كوردستان في المظاهرات، وهي من تلعب على مشاعرهم القومية، كنوع من الاستغلال الشعبوي لعقدة الاضطهاد التي يشعرون بها، كما أنها (تلك الأحزاب) تتصرف مع الأكراد أحياناً كما النظام السوري، وكل من يخالفها الرأي يصبح خائناً للقضية الكردية، وتمارس ضده الإرهاب الفكري والجسدي، وليست حادثة مشعل تمو هي المثال الوحيد على ذلك"
بالتأكيد إن الأكراد هم مكوّن رئيسي لسورية، وهم قومية تاريخية وأصيلة بحد ذاتها، وقد تعرضوا للظلم والاضطهاد على أيدي نظام البعث منذ وصوله للسلطة عام 1963، ومن حقهم الطبيعي اليوم أن تردّ مظالمهم وأن يُعترف بهم وبقوميتهم وبثقافتهم ولغتهم ودون منّة من أحد، بل هم غنىً حقيقي لثقافة وطننا الجامع، وليس من حقّ أحد إنكار ذلك عليهم..... لكن بالتأكيد وبشكل حازم وقاطع فإن هناك خطاً أحمر لا يمكن لأحد الاقتراب منه، وهو وحدة الأراضي السورية، وفي سورية المستقبل لا يوجد سوى شعب واحد اسمه الشعب السوري، وهو يضمّ كل السوريين من كل القوميات والأطياف والألوان، هذا هو العقد الوطني الذي يسعى إليه جميع السوريين في ثورتهم، والمواطنة وحدها هي الصفة والهوية الجامعة لنا بلا استثناء وبلا تمييز، وفي الدولة المدنية التعددية ستذوب كل التفاصيل والانتماءات الضيقة أمام المواطنة العادلة والكاملة والمحمية بحكم القانون، هذا ما قاله الشهيد مشعل تمّو، وهذا ما خرج ينادي به رودي عثمان، ورستم محمود والعشرات غيرهم، وهو ذاته الذي صرخ به أكراد القامشلي وعفرين وجبل الأكراد وركن الدين، ولم يتحدّث أي منهم إلا عن سورية الواحدة الموحدة التي تضمّ الجميع، هؤلاء هم الأكراد الحقيقيون الذين شاركوا بالثورة على الأرض، ودفعوا كل الأثمان في سبيلها، والتوّاقين للحرية ذاتها التي يحلم بها أي سوري تعرض للاضطهاد على أيدي هذا النظام.
من جهتهم فقد أبدا السوريون العرب كل حسن النوايا مع أخوتهم الأكراد، وتفهموا مشاكلهم جيداً بعد أن كانت عصية على الفهم فيما سبق نتيجة تأثّرهم برواية النظام التي صوّرت الأكراد ككيان إنفصالي يريد تمزيق وحدة البلاد، وأصبح طرح موضوع الفيدرالية ورفع العلم الكردي أشياء مقبولة في الشارع بعد أن كانت من المحرمات، و تحوّلت أماكن الصدام بين العرب والكرد في بعض مناطق الشمال السوري إلى مناطق مؤازرة ودعم بينهم في مواجهة نظام غاشم إجرامي، واستقبلت المناطق الكردية النازحين من دير الزور وغيرها، وشارك المتظاهرون العرب أخوتهم الأكراد الأفراح والأتراح، واحتفلوا معهم بالنوروز وأعلنوا الحداد الوطني على شهدائهم، وسموا جمعتين ثوريتين باسمهم، ورُسمت أزادي على اللافتات والأجساد وصدح بها الملايين.
في مواجهة هذه الحقائق نسأل أين الأحزاب التي تدعي تمثيل الأكراد منهم، ولماذا تريد النحو بهم هذا المنحى الخطير، وهل يدركون حقاً جسارة ما يقومون به، وتأثيره السلبي عليهم وعلى الثورة وعلى الوطن ككل، وكيف يظنون أن الشعب السوري المكلوم الذي يتعرض للذبح بشكل لحظي سينظر إلى ما فعلوه في القاهرة وسابقاتها، والذي أعطى فرصة جديدة للنظام لينكّل بهم...؟!!
طيلة ليل البارحة كنت على تواصل مع الناشطين على الأرض، ولا أخفيكم أن معظم هؤلاء أبدوا تأففهم الشديد وتململهم من سلوك أحزاب المعارضة الكردية، واعتبروا ما حصل استغلالاً ومتاجرة بدماء وعذابات السوريين، ومحاولة رخيصة للابتزاز السياسي، وأنه كان مأمولاً من تلك الأحزاب أن تضع كل جهودها في إسقاط النظام كمرحلة أولى، ثم يصار إلى مناقشة المواضيع الخلافية لاحقاً ضمن البيت الداخلي، طالما أن كل وثائق المعارضة السورية ومنذ انطلاق الثورة ثبتت حق الأكراد في المساواة مع جميع السوريين في الحقوق والواجبات، بالإضافة إلى ميزات حصرية بالأكراد دون غيرهم من الأعراق والقوميات كالاعتراف الكامل بوجودهم القومي والثقافي.
من خلال متابعتي لأداء المعارضة الكردية طيلة الفترة السابقة، وإفشالها المتعمّد لاجتماعات المعارضة، فإنني لا أجد أن الأمور تجري ببساطة وبتلقائية كما قد يُظن للوهلة الأولى، لذلك سأقول رأيي وبصراحة، ومهما سيمارس ضدي من اتهامات جاهزة ومعلّبة (شوفينية بعثية، قومجية، تطرف عروبي......) فما يهمني في النهاية مصلحة بلادي ووحدة أراضيها ولا شيء آخر:
أنا لا أبرأ أبداً بعض رموز أحزاب المعارضة الكردية من التورط بمخطط أقليمي خطير، وأتهمها بشكل مباشر وصريح بالعمل الدؤوب على محاولة خلق حالة شقاق مفتوح بين العرب والكورد، وذلك بهدف استعداء كل منهما للآخر، ما سيجعل كل طرف بالمحصلة يدافع عن وجوده، وقد تحدث صدامات بين الطرفين في النهاية، وبعد طفو هذا الخلاف على السطح وتضخّمه وتحوّله إلى أزمة حقيقية، يصبح الجو مواتياً لطرح مبدأ "حق تقرير المصير" ، وحينها سيتم تدويل القضية، وسيجتمع العالم ليمنح هذا الحق الدولي للأكراد المظلومين الذين سيصوتون حينها للإنفصال بسبب وجود محيط معادٍ لهم.... هذا كما أعتقد هو ما يحلم به بعض من يحتل مراتب قيادية داخل الأحزاب الكردية الآن واضعين نصب أعينهم ما فعله أقرانهم في شمال العراق، لكن هذا الذي لن يحصل بالتأكيد لاعتبارات شتى، ليس أولها الطابع الديموغرافي والسياسي للبلاد ومحيطها الجغرافي وخصوصاً مع تركيا، وليس آخرها أن أكراد سورية بمجملهم واعون وعارفون بأن مصيرهم الأفضل هو في سورية الحرة التي ساهموا ببنائها على مدى آلاف السنين، وكلنا أمل أن يقول الأكراد قولهم بمن يحاول استغلال قضيتهم والمتاجرة بها بهدف الوصول إلى زعامات قومية وحزبية ستتحول إلى إقطاعيات وإمارات منفصلة لاحقاً، وذلك بسبب الخلافات الفكرية والعقائدية بين الأحزاب الكردية ذاتها والتي تعرفونها جميعاً، وأن يتبرؤوا من أفعالهم التي لا تعود بالمصلحة على القضية الكردية العادلة، وسيعتبر مجمل السوريين ذلك مساهمة تاريخية منهم للحفاظ على مستقبل البلاد التي سنبنيها بسواعدنا جميعاً، والتي نستطيع تحويلها إلى حديقة غنّاء بتنوعها وجمالها وتناسق ألوانها، وهي مؤهلة لذلك بقوة واقتدار، وليس أدلّ على ذلك مما يقوله لنا تاريخ سورية الجميل قبل وبعد الاستقلال والذي كان الأكراد وغيرهم جزءاً أساسياً في نهضته، وساهموا ببنائه وهم على أعلى سلّم القيادة السياسية والعسكرية والاقتصادية، قبل أن يأتي نظام البعث المأفون ويبعثر كل هذه التفاصيل الجميلة...ولتقولوها كما قلتوها في مظاهراتكم مراراً ورفعتم بها اللافتات في القامشلي وعفرين وركن الدين وجبل الأكراد وغيرها "واحد واحد واحد...الشعب السوري واحد" .
* ملاحظة: لكل المنادين بانتماءات فئوية؛ دينية، أو طائفية، أو عرقية، أو مناطقية....هذا الخطر يأتي أيضاً بنفس الدرجة من دعواتكم التي تفتح شهية الجميع لأن يحذوا حذوكم ليحافظوا على هويتهم ووجودهم، لذلك عندما ندعو لدولة مدنية حديثة، فإننا نفعل أولاً وأخيراً للأننا نعتقد أنه هو ما سيدرأ هذا الخطر عن البلاد.