حسناً..
لو قال قائل: إنه يجوز أن ننشيء (نظاماً سياسياً نصرانياً) لأن النجاشي شارك في
نظام سياسي نصراني وكان فعله مشروعاً؛ لكان هذا القائل في غاية السذاجة، لأن كل
أحد يميز في كلام أهل العلم بين (مقام الإنشاء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة).
دعنا
الآن ننتقل لـ(نموذجٍ ثالث)، وهو (تولي القضاء في نظام التتار) قال ابن تيمية (وكثيرا ما
يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضياً، بل وإماماً، وفي نفسه أمور من العدل
يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها)[الفتاوى:19/218].
فلاحظ
كيف يجوز المشاركة في نظام التتار، حتى لو كان الإنسان لا يستطيع أن يقوم بكل
الشريعة.
وهاهنا
سنطرح من جديد ذات السؤال: ما رأي القارئ الفاضل لو سمع أحداً يقول: (يجوز أن يقيم
المسلم نظاماً تترياً وثنياً، لأن أهل العلم أجازوا تولي القضاء بين المسلمين
والتتار) أليس سيعتبر هذا القائل جاهلاً؟ بلى وحُق له ذلك، لأن هناك فرقاً جوهرياً
بين (مقام الابتداء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة).
وهكذا
أيضاً في (النموذج الرابع) الذي بأيدينا، وهو أن عمر بن عبدالعزيز ترك بعض مظالم
بني أمية التي عجز عنها، وقد نقل الإمام ابن عبد الحكم (ت214هـ) مفتي الديار
المصرية في كتابه المشهور عن سيرة عمر بن عبد العزيز ما يكشف بعض ما كان يدور في
الداخل الرئاسي، يقول ابن عبد الحكم:
(لما
ولي عمر بن عبد العزيز قال له ابنه عبد الملك: إني لأراك يا أبتاه قد أخرت أموراً
كثيرة كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها، ولوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت
بي وبك القدور، قال له عمر أي بني، إنك على حسن قسم الله لك، وفيك بعض رأي أهل
الحداثة، والله ما أستطيع أن أخرج لهم شيئاً من الدين إلا ومعه طرف من الدنيا،
أستلين به قلوبهم، خوفاً أن ينخرق علي منهم ما لا طاقة لي به)[سيرة عمر:57].
وفي
حادثة أخرى دار الحوار كالتالي:
(وفيما
يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك لا تنفذ الأمور؟
فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. قال له عمر: "لا تعجل يا
بني، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل
الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، ويكون من ذا فتنة")[الموافقات:2/148].
حسناً
.. نحن نرى عمر بن عبد العزيز شارك في النظام السياسي الأموي، وهو نظام متغلب،
وجرى فيه مظالم معروفة في الدماء والأموال، ومع ذلك لم يقم عمر بن عبد العزيز
بتطبيق الشريعة كاملة، بل طبق منها ما يستطيع، وترك أموراً من الشريعة عجز عنها،
كما كشفه الحوار الذي دار في منزل عمر.
دعنا
نستعرض الإشكالية مجدداً: هل يمكن لأحد أن يقول يسوغ في النظام السياسي الإسلامي
أن نقيم نظام سياسي متغلب، ونرتكب مظالم مالية لأن عمر بن عبدالعزيز شارك في رئاسة
نظام سياسي متغلب وأبقى بعض المظالم التي عجز عنها؟ هل يقول هذا عاقل؟ لا، بالطبع،
لأن هناك فرقاً كما تقدم بين (مقام الإنشاء) و (مقام المشاركة للمصلحة الراجحة).
إذا
اتضحت الصورة الآن، في التفريق بين مقام الإنشاء ابتداءً، ومقام المشاركة السياسية
للمصلحة الراجحة، وأنه لا يسوغ استنباط حكم الإنشاء من حكم المشاركة، أو استنباط
حكم الاختيار من حكم الاضطرار، أو استنباط حكم القدرة من حكم العجز، وإلا خالف
الإنسان في ذلك العقلاء جميعاً، فدعنا نتجاوز هذه الصور التراثية إلى صور معاصرة:
نحن
نعلم أن عامة علماء أهل السنة اليوم حكموا بأن النظام الديمقراطي الغربي مخالف
للسياسة الشرعية (وسيأتي ذكر أوجه التعارض بين النظامين لاحقاً)، وبالتالي فلا
يشرع إنشاؤه ابتداءً، ولكن إذا كان نظاماً قائماً، فأجازوا المشاركة السياسية فيه
للمصلحة الراجحة، وسنذكر بعض الأمثلة:
-موقف
ابن سعدي:
لما
تعرض العلامة ابن سعدي (ت1376هـ) رحمه الله لفوائد قصة شعيب قال (هذه الروابط
التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك،
لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت
ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من
حقوقهم الدينية والدنيوية؛ لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية
والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عملة وخدما لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة
للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها
دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة، والله أعلم)[تفسير ابن سعدي:389].
فلاحظ
في هذا النص عمق فقه ابن سعدي، حيث فرق بين مقامي الاختيار والاضطرار، وفرق بين
حال القدرة وحال العجز، ففي حال الاختيار والقدرة يشرع للمسلم أن ينشئ نظاماً
سياسياً إسلامياً كما يقول " إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو
المتعين" ولكن في حال الاضطرار والعجز فيشرع للمسلم أن ينتقل للمرتبة التي
تليها، وهي النظام الجمهوري، فجعل ابن سعدي مشروعية النظام الجمهوري مرتبطة بعد
القدرة والإمكان على بناء السياسة الشرعية الأصلية.
فيستفاد
من هذا النص الثمين أن ابن سعدي يرى أن النظام الجمهوري نظام مخالف في أصله
للسياسة الشرعية، ولذلك ربط مشروعيته بالعجز والاضطرار.
فلو
جاء شخص وقال ابن سعدي: يرى جواز تحويل الدولة المسلمة إلى نظام جمهوري؛ لكان هذا
القائل مدلِّساً بلا ريب، فابن سعدي -بكل وضوح- يقول إذا أمكن فيجب أن تكون الدولة
للمسلمين، وإذا لم يمكن ينتقل للنظام الجمهوري للمصلحة الراجحة، وهذا عين كلام أهل
العلم، ولا يخالف في هذا أكثر الفقهاء.
ب-موقف
اللجنة الدائمة للإفتاء برئاسة ابن باز:
أصدرت
اللجنة الدائمة للإفتاء في السعودية برئاسة ابن باز(ت1420هـ) فتاوى متعددة، وكلها
بلا استثناء تميز بين: مقام الاختيار ومقام الاضطرار، وتميز بين مقام الإنشاء
ابتداءً ومقام المشاركة للمصلحة الراجحة.
دعنا
نتناول بعض هذه الفتاوى ونفحص المبادئ الثاوية فيها، أول هذه الفتاوى هي التالي:
(السؤال:
هل يجوز التصويت في الانتخابات والترشيح لها، مع العلم أن بلادنا تحكم بغير ما أنزل
الله؟ الجواب: لا يجوز للمسلم أن يرشح نفسه رجاء أن ينتظم في سلك حكومة
تحكم بغير ما أنزل الله، وتعمل بغير شريعة الإسلام ، فلا يجوز لمسلم أن ينتخبه
أو غيره ممن يعملون في هذه الحكومة، إلا إذا كان من رشح نفسه من المسلمين، ومن ينتخبون
يرجون بالدخول في ذلك أن يصلوا بذلك إلى تحويل الحكم إلى العمل بشريعة الإسلام،
واتخذوا ذلك وسيلة إلى التغلب على نظام الحكم، على ألا يعمل من رشح نفسه بعد
تمام الدخول إلا في مناصب لا تتنافى مع الشريعة الإسلامية)[اللجنة
الدائمة:23/407].
فانظر
كيف فرقوا في النظام الديمقراطي بين مقام الإنشاء ابتداءً، ومقام المشاركة
السياسية للمصلحة الراجحة في نظام قائم، وهذا عين ما يقرره فقهاء المسلمين منذ
القدم في مسألة التعامل مع (النظام السياسي غير المشروع).
وجاء
في فتوى أخرى حول إنشاء الأحزاب الإسلامية في النظام السياسي العلماني:
(السؤال:
هل يجوز إقامة أحزاب إسلامية في دولة علمانية وتكون الأحزاب رسمية ضمن القانون، ولكن
غايتها غير ذلك، وعملها الدعوي سري؟ الجواب: يشرع للمسلمين المبتلين بالإقامة في دولة
كافرة أن يتجمعوا ويترابطوا ويتعاونوا فيما بينهم سواء كان ذلك باسم أحزاب إسلامية
أو جمعيات إسلامية؛ لما في ذلك من التعاون على البر والتقوى)[اللجنة
الدائمة:23/408].
فأهل
العلم هاهنا يمنعون من إقامة نظام سياسي علماني ابتداءً، لكن إذا كان قائماً فيشرع
المشاركة السياسية فيه للمصلحة الراجحة، فلو جاءنا رجل وقال اللجنة الدائمة تجيز
إقامة نظام سياسي علماني لأنهم أجازوا المشاركة فيه! فماذا سيقول العقلاء عن هذا
الاستنباط؟!
وفي
فتوى نادرة توضح مدى النظرة المصلحية لدى علماء اللجنة الدائمة، وتوسعهم في مفهوم
المشاركة السياسية، جاءت صياغة السؤال والجواب كالتالي:
(السؤال:
بعض الناس مسلمين ولكنهم ينخرطون في الأحزاب السياسية، ومن بين الأحزاب إما تابعة لروسيا
أو تابعة لأمريكا، وهذه الأحزاب متفرعة وكثيرة؛ أمثال: حزب التقدم والاشتراكية، حزب
الاستقلال، حزب الأحرار، حزب الأمة، حزب الشبيبة الاستقلالية، حزب الديمقراطية
الخ، ما هو موقف الإسلام من هذه الأحزاب، ومن المسلم الذي ينخرط في هذه الأحزاب، هل
إسلامه صحيح؟ الجواب: من كان لديه بصيرة في الإسلام، وقوة إيمان، وحصانة إسلامية، وبعد
نظر في العواقب، وفصاحة لسان، ويقوى مع ذلك على أن يؤثر في مجرى الحزب فيوجهه توجيهًا
إسلاميًّا؛ فله أن يخالط هذه الأحزاب، أو يخالط أرجاهم لقبول الحق؛ عسى أن ينفع الله
به، ويهدي على يديه من يشاء، فيترك تيار السياسات المنحرفة إلى سياسة شرعية عادلة،
ينتظم بها شمل الأمة، لكن لا يلتزم مبادئهم المنحرفة، ومن ليس عنده ذلك الإيمان، ولا
تلك الحصانة، ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر، فليعتزل تلك الأحزاب؛ اتقاء للفتنة ومحافظة
على دينه أن يصيبه منه ما أصابهم، ويبتلى بما ابتلوا به من الانحراف والفساد،
وبالله التوفيق)[اللجنة الدائمة:12/385]
فانظر
بالله عليك الأوصاف الخطيرة التي وصفت بها هذه الأحزاب السياسية المسؤول عنها، وقد
تعمدت ترك السؤال بتفاصيله ليتبين مدى (المرونة السياسية) التي يتمتع بها علماء
أهل السنة، فكلها أحزاب سياسية مخالفة للإسلام صراحة، ومع ذلك فرق علماء اللجنة
بين إنشاء هذه الأحزاب ابتداءً، وبين المشاركة فيها للمصلحة السياسية الراجحة.
فلو
جاءنا شخص وقال: اللجنة الدائمة يجيزون إنشاء أحزاب اشتراكية ويسارية وديمقراطية
وليبرالية، لأنهم في أحد فتاواهم أجازوا المشاركة فيها للمصلحة الراجحة، لكان هذا
فهم سقيم لمثل هذه الفتاوى.
وكل
هذه الفتاوى الثلاث السابقة صدرت عن اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز، رحمات الله
على روحه الطاهرة، وبقي في حوزتي الآن فتوى أخرى خاصة به، لم تكن ضمن فتاوى اللجنة
الدائمة، نشرها الشيخ في مجلة (لواء الإسلام) والحقيقة أنني لم أجد المجلة متاحة،
وقد بحثت عنها، ولكني وجدت الشيخ الجليل مناع القطان (ت1420هـ) رحمه الله نقل نص
الفتوى في بحثه (معوقات تطبيق الشريعة) فسأنقل الفتوى عن الشيخ مناع حتى أستطيع
الحصول على نسخة من المجلة، يقول الشيخ مناع القطان:
(وقد
سُئل شيخنا المفضال العالم الورع، سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، عن شرعية
الترشيح لمجلس الشعب، وحكم الإسلام في استخراج بطاقة انتخابات بنية انتخابات
الدعاة، والإخوة المتدينين لدخل المجلس، فأفتى فضيلته بقوله "إن النبي -صلى الله
عليه وسلم- قال إنما الأعمال بالنيات، لذا فلا حرج في الالتحاق بمجلس الشعب، إذا كان
المقصود من ذلك تأييد الحق، وعدم الموافقة على الباطل، لما في ذلك من نصر الحق، والانضمام
إلى الدعاة إلى الله، كما أنه لا حرج كذلك في استخراج البطاقة التي يُستعان بها على
انتخاب الدعاة الصالحين، وتأييد الحق وأهله والله الموفق. مجلة لواء الإسلام، ع3،
1409هـ، 1989م)[معوقات تطبيق الشريعة:166].
وهناك
فتاوى أخرى للإمام ابن باز –فسح الله له في قبره- عن جواز (المشاركة في النظم
السياسية غير المشروعة للمصلحة الراجحة) وهي لا تختلف من حيث المبدأ الشرعي عن هذه
الفتاوى السابقة (التمييز بين الإنشاء والمشاركة) و (التمييز بين حال الاختيار
وحال الاضطرار).
جـ-موقف
فقيه العصر ابن عثيمين (ت1421هـ):
لاحظت
أن أكثر فقهائنا حماساً للمشاركة السياسية في النظم غير المشروعة هو الشيخ ابن
عثيمين، وقد لمست ذلك ظاهراً في عدة فتاوى له، أحد هذه الفتاوى كانت نقاشاً بينه
وبين طلابه في شهر بيع الأول من العام 1420هـ، وألتمس من القارئ أن يدقق في صياغة
الصورة المسؤول عنها، وفي جزم الشيخ بالمشاركة دون تردد، بل لاحظ كيف رفع الأمر من
المشروعية إلى الوجوب!، حيث جاء الحوار كالتالي ، وأعتذر مسبقاً عن نقل الحوار
بطوله:
(السؤال:
ما حكم الانتخابات الموجودة في الكويت , علماً بأن أغلب من دخلها من الإسلاميين
ورجال الدعوة فُتِنوا في دينهم؟ وأيضاً ما حكم الانتخابات الفرعية القبلية
الموجودة فيها يا شيخ؟! الجواب: أنا أرى أن الانتخابات واجبة, يجب أن نعيِّن من
نرى أن فيه خيراً, لأنه إذا تقاعس أهل الخير من يحل محلهم؟ أهل الشر! فإذا قال
قائل: اخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك, نقول: لا بأس, هذا الواحد إذا
جعل الله فيه بركة، وألقى كلمة الحق في هذا المجلس، سيكون لها تأثير ولابد, لكن
ينقصنا الصدق مع الله, نعتمد على الأمور المادية الحسية ولا ننظر إلى كلمة الله عز
وجل, ماذا تقول في موسى عليه السلام عندما طلب منه فرعون موعداً ليأتي بالسحرة
كلهم, واعده موسى ضحى يوم الزينة، يوم الزينة هو يوم العيد؛ لأن الناس يتزينون يوم
العيد، في رابعة النهار وليس في الليل, في مكان مستو, فاجتمع العالم، فقال لهم
موسى عليه الصلاة والسلام "ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد
خاب من افترى" كلمة واحدة صارت قنبلة, قال الله "فتنازعوا أمرهم بينهم"
الفاء دالة على الترتيب والتعقيب والسببية, من وقت ما قال الكلمة هذه تنازعوا
أمرهم بينهم, وإذا تنازع الناس فهو فشل, كما قال الله "ولا تنازعوا فتفشلوا"..،
أثَّرت كلمة الحق من واحد، أمام أمة عظيمة، زعيمها أعتى حاكم، فأقول: حتى لو فرض
أن مجلس البرلمان ليس فيه إلا عدد قليل من أهل الحق والصواب سينفعون, لكن عليهم أن
يصدقوا الله عز وجل, أما القول: "إن البرلمان لا يجوز، ولا مشاركة الفاسقين,
ولا الجلوس معهم" هل نقول: نجلس لنوافقهم؟ نجلس معهم لنبين لهم الصواب. بعض
الإخوان من أهل العلم قالوا "لا تجوز المشاركة, لأن هذا الرجل المستقيم يجلس
إلى الرجل المنحرف" هل هذا الرجل المستقيم جلس لينحرف أم ليقيم المعوج؟! نعم
ليقيم المعوج, ويعدل منه, إذا لم ينجح هذه المرة نجح في المرة الثانية.
السائل:
والانتخابات الفرعية القبلية يا شيخ؟ الجواب: كله واحد أبداً، رشح من تراه خيرا،
وتوكل على الله)[لقاء الباب المفتوح:ل211].
ولم
يتوقف كلام الشيخ ابن عثيمين على المشاركة السياسية في (الديمقراطية الكويتية)، بل
أيضاً دعم الشيخ المشاركة في (الديمقراطية الأمريكية)، حيث جاء في سؤالات الدكتور
أحمد القاضي لابن عثيمين، المعروفة، والتي نشرت باسم ثمرات التدوين مايلي:
(سألت
شيخنا رحمه الله :عن المسلمين في أمريكا ، هل يشاركون في الانتخابات التي تجري في
الولايات لصالح مرشح يؤيد مصالح المسلمين؟ فأجاب بالموافقة، دون تردد)[ثمرات
التدوين:م593].
حسناً
.. لو جاء شخص وقال أن ابن عثيمين يجيز إقامة ديمقراطية على الطريقة الأمريكية أو
الكويتية لأنه أجاز المشاركة فيهما، لكان قوله هذا لا يحتاج الرد عليه أصلاً، لأن
العقلاء يفرقون بين مقامي الاختيار والاضطرار، ومقامي الإنشاء ابتداءً والمشاركة
السياسية للمصلحة الراجحة.
وعلى
وضوح هذا الأمر، أعني التمييز بين الاختيار والاضطرار، والإنشاء والمشاركة، وحال
القدرة وحال العجز، الخ إلا أنني لا حظت كثيراً ممن يخوضون في موضوع الديمقراطية
يخلط فيهما خلطاً مضحكاً، فيأتون بنصوص بعض أهل العلم في جواز المشاركة في نظام
سياسي غير شرعي في حال الاضطرار والعجز، ويستنبطون منها جواز إنشاء نظام سياسي غير
شرعي ابتداءً وفي حال الاختيار والقدرة!.
على
أية حال .. هذه هي القاعدة العامة في السياسة الشرعية، وهي التمييز بين الإنشاء
والمشاركة، والتمييز بين مقامي الاختيار الاضطرار، والتمييز بين حالي القدرة
والعجز.
وهنا
يتساءل البعض وبشكل متكرر: من شارك في نظام سياسي غير شرعي، هل يأثم على الأمور
الشرعية التي تركها ولم يعمل بها؟ وقد أجاب ابن تيمية في خاتمة كتابه
"السياسة الشرعية" على هذه المسألة بقوله:
(فمن
وُليِّ ولاية يقصد بها طاعة الله، وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام
فيها ما يمكنه من الواجبات، واجتناب ما يمكنه من المحرمات؛ لا يؤاخذ بما يعجز عنه،
فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار، ومن كان عاجزا عن إقامة الدين
بالسلطان والجهاد، ففعل ما يقدر عليه، من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة، ومحبة
الخير، وفعل ما يقدر عليه من الخير؛ لم يكلف ما يعجز عنه)[السياسة الشرعية:133].
-صيانة
المال العام:
كنت
أريد أن أستعرض هاهنا بعض القواعد الشرعية في صيانة وحفظ المال العام، وإبراز
مركزية المال العام في فقه أهل السنة، وشدة عنايتهم به، ولكن المساحة لم تعد تحتمل
فلذلك فإني أحيل القارئ الكريم إلى ورقة نشرتها بعنوان (مغلوطات
المال العام) وهي موجودة على الشبكة، يمكن الوصول
لها بمحركات البحث، وقد استعرضت فيها بعض القواعد الشرعية للمال العام مثل: إنما
أنا قاسم، ومن أين لك هذا؟، هلا جلس في بيت أبيه ليهدى إليه؟، اكتبا كل مالٍ لكما،
انتفاء الحد لا يعني انتفاء التعزير، المصلحة تقييد لا تخيير، العدل في الإقطاع
العقاري، ونحوها.
-قطعية
نصوص الصبر والطاعة ومنع الخروج:
لاحظت
في عدد من المجالس الفكرية، ومواقع التواصل الاجتماعي، أن بعض المعنيين بالتغيير
السياسي الناقمين على الاستبداد، يرمون أحياناً ببعض العبارات التهكمية تجاه
أحاديث (الصبر والطاعة ومنع الخروج)، وهذه المشاهد في الحقيقة من أكثر الانحرافات
إزعاجاً للمؤمن المعظّم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء الأشخاص الذين
يتهكمون بأحاديث الصبر والطاعة وتحريم الخروج هم في الواقع في غاية الحماقة، بل لا
يستطيع العقل أن يتصور حماقة أطرف من ذلك، إذ كيف يهينهم المتغلب ويكبتهم، فيفرغون
حنقهم في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذا والله الخسارة والغبن بعينه.