أَقَاصِيْصُ رَمَضان
الجزء الأول
تأليف
د. حمزة آل فتحي
عَضّوِ هيئة التدريس بجامعة الملك خالد بأبها
الطبعة الأولى
1433هـ
2012م
بّسًمِ الَلَهِ الَرٌحًمِنٌ الَرٌحًيّمِ
التوطئة
الحمد لله الممتن بصوم رمضان، وسابغ الخير والإحسان، وصلى الله وسلم على النبي المعوان ، والمعلم الفهمان، وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم المرجع والمقام.
أما بعد ،،،
ففي كل سنة رمضانية، يشرح الله الخاطر لكتابه شىء في رمضان ، أحكاماً أو سلوكيات أو عبراً ورؤى وعظات ، لأنني مع شغفي بالقراءه أشغف كذلك پآلكتابة ، ولا ازال أكتب كل ماسنَح لي ، وتدفقت النفس لتقييده، علماً، وفكراً ،وإفتاءً، ودعوة ، أومنهاجاً، وتبصرة، وأرى أنه من الأهمية بمكان، تنويع الطاعة في رمضان، مابين تلاوة وذكر، وتدريس وتأليف ، وحب وتراحم، وتواصل ، حتى يكتمل الالتذاذ، وتنشًرَحُ النفوس وتحيا القلوب hov hofvhv s,vdh hgd,l،hofhv e,vm s,vdh الكاملة .
ولهذا من المفيد للمؤلف ، والعالم الأديب، والداعية المفكر، أن يستثمر لحظات رمضان، ليفجِّر فيها مؤلفات جُدَيَدَة ، ورسائل ماتعة، لم تُطرق من قبل !!
فمثلاً قضايا الأحكام والآداب الرمضانية ، كُتب فيها كثيراً ، ولكن ثمة قضايا وأسرار رمضانية ، لم يكتب فيها الناس بعد !! وهذا مقصد تأليفي مهم، لمن يملك ناصية الكتابة، وآلة الاستنباط...
وقد سار العبد الفقير مع رمضان سيرة المؤلفين ، بحمد الله تعالِى ، وكتب عدة كتب مختلفة ، وهو يأمل طرق أبواب ومنافذ جديدة ، ليعيش حلاوة الشهر والكتابة، ولينفع الجماهير پآلجُدَيَدَ والجاذب والمفيد ...
فعلى سبيل المثال والتنبيه، كتب عن رمضان :
(1) طلائع السلوان في مواعظ رمضان ، يتناول الأحكام والآداب .
(2) بين الأذانين ، درس يومي، طُبع لاحقاً.
(3) الدرس الرمضاني : درس آخر يومي ، طبع سهلاً ميسوراً .
(4) الدرس الرمضاني : دروس أخرى على مدار ثلاث سنين ، تحدثت فيها عن (قصص الأنبياء القرآنية)، وكان فيها ربط پآلقرآن .
(5) الحكمة النبوية في رمضان : مخطوط .
(6) رؤى في رمضان ، مخطوط .
(7) الإشعاع السني في رمضان.
(
رمضان خارج بلدي .
وهي كذلك مخطوطة ، يسر الله نشرها على وجه الحسن والصدق والإحسان .
والآن في موسم (1431) هـ، يطل رمضان ، وفي خضم جهد بحثي وعلمي وفكري لايكاد يتوقف ، وإبان إقامتي في الديار المصرية، والقريحة أيضاً تفيض شعرا وشهداً، انقطع لأجل شهر النور والإفضال والبركة، لأسجل فيه بصمةً جيدة، لأنني لا أحب خروجه دون فائدة علمية، أو لطيفة تأليفية، لاسيما وقد احتُبسنا في دار الغربة، عن إشعاعنا الدروسىِ، وعطائنا الدعوي، واصطبغنا پآلتأليف شكلاً ومضموناً
وهو الرئة التي يتنفس منها الداعية النائي، عن بلده ودرسه ومسجده.!!
ومع ذلك فقد كان فيها خير كثير، يربو على جهدنا أيام الدرس والتعليم ، وأثناء الفكر والتفكير ، والبحث والتجديد، حيث انقدح في ذهني ( أقاصيص رمضان ) أحكي فيها بعض مشاهد hov hofvhv s,vdh hgd,l،hofhv e,vm s,vdh الرمضانية ، قديما وحديثاً، وتخيلاً، وأسوقها في إطار أدبي، أرجو أن يكون شائقاً على هيئة (القصة القصيرة) لعلها تكون من التجُدَيَدَ الطريف، المستظرف في قضايا شهر رمضان المبارك.
وقد امتن الله على بولوج ساحة (القصة القصيرة)، وهي فن أدني جميل ، منتزع من تراثنا، يؤدي رسالة فكرية خاصة ، يعمد إلى التكثيف والجاذبية وروعة التصوير والتراكيب وسأجعل هذه القصص والمشاهدات في إطار رمضان ومحاسن الناس، وعجائبهم وأغلاطهم وذكرياتهم...!!
سائلاً المولى تعالِى أن تكون بصمة جيدة ، ونافذة عطِرة على مسار الأدب الإسلامي المنشود.
آمين
الخميس 2 رمضان 1431 هـ
12/8/2010
(1) المنائــــر..!
أُوقدت المنائر وأُضيئت المصابيح ، وازدحم الناس والأطفال على باعة الطعام ودخل أحمد على أمه مسرعاً...!
يا أمي : جاء .. جا... جا.. ..
الأم : ماعندك يا أحمد.....؟
رمضان جاء يا أمي ، الأطفال يلعبون والناس يزدحمون في السوق ، والمنائر مضاءة ، والطرق تبدو كأنها لأول مرة نظيفة ، ومسرورة ، رأيت السرور في كل مكان...!
الغني فرِح، والفقير فرح ، وزملائي يلعبون وينشدون ...!
فقالت الأم : نعم يا أحمد هذه فرحة رمضان...! شهر حُشي نوراً وخيراً، فافرح به معهم معهم، وسأصنع لك الحلوى التي تحبها...
(2) الزحـــــام ..!
هذه آخر ليالي شعبان .. هل ستصلي يا أبي التراويح معنا الليلة ...؟!
لا أدري يا يزيد... هيأي وضوئي يا أم يزيد...!
دنت صلاة المغرب .... انطلقت مع أبي... فإذا حول المسجد حركة وجلَبة، وأرى الأحذية الكثيرة ، والمسجد مضاء إضاءة قوية نادرة ...
كأنه رمضان يا أبي ! نعم يايزيد لعلهم أعلنوا، الآن قبل خروجنا إلى الصلاة...
الله ماأجمل هذه الصفوف !! كان مسجدنا لايمتلىء!!
الليلة هو غاصٌ پآلمصلين..
الله اكبر ..... كأنني لأول مرة أسمع ( ألم نشًرَحُ لك صدرك ) ما أطيبها على قلبي يا أبي في رمضان...
إذن استكثر منها يايزيد ...
(3) يالها من أكلة ..!!
تضوّع البيت بعبَق الأطعمة الشهية، وزغردت سرجه وأنواره، حتى كدت أطير من الفرحة .. أُذن لصلاة العصر ...
اندفعت مسرعاً وإذا پآلمسجد، عالم آخر من الزحام والابتهاج ...!
صلينا ، فكانت أحلى صلاة نادرة عزيزة ! ينتظرها قلبي من زمان بعيد...
أين كنا عن هذه الأجواء الإيمانية...؟!
تلوت شيئا من القرآن بعد الصلاة، والمسجد مزيج من التلاوات المختلفة...
حتى جيراننا الذين يقصرون في الصلاة، أشاهدهم الآن يرتلون القرآن ، ففرحت بذلك ، ودعوت لهم . ....
عدت للبيت ، وقلبي يتراقص من الفرح...!
ماذا خبأوا لنا في البيت ؟ !
دنا أذان المغرب ، ومُدَّت سفرة عجيبة فسيحة ، فيها مالذ وطاب ...
قلت : ماهذا الجمال والرخاء ياأمي ..؟ قالت : فرحة رمضان يابني...
ولحظت السمبوسة.. أكلتنا الشعبية الرمضانية، وقد كنت أرقبها منذ زمن ، فاندفعت اليها ، وكدت أنسى التمرات....
فنهرني أبي .. توقف ... السنة التمر أولا ..
ثم أمامك الطبق المزهو پآلنقوش المنزلية.... لاتدع منه شيئا...!
حسنا يا أبي، تمرات ثم قطعات ففطيرات ، يالها من أكلة : ... ياليت السنة كلها رمضان ياأمي...!!
أمي هاهاها..سنتعب معكم حينها...!!
(4) الخاشع الخفي..
تُليت صلاة الِفُجٌرٌ على مسامعنا، بأندى صوت وأطيبه، وأرقه حتى عشنا صبيحةً هي ألذ نفائس hov hofvhv s,vdh hgd,l،hofhv e,vm s,vdh، ومن زهرات الدنيا النادرة...!!
ثم انقلب أحدنا تلو الآخر... ناحية الاسطوانة الممتلئة عرضاً وصمودا ، فأسند إليها ظهره ، وحمل مصحفه، وأصبح يتلو، ويتلو حتى طلعت الشمس، وأزهر اليوم...
وغردت العصافير...
فقمت كإخواني وصحابي الذاكرين، وصلينا ركعتي الإشراق...
ثم تأخرت قليلا، فخرج من في المسجد، فدنوت لأطفئ الكهرباء....
فاذا تالٍ في زاوية من المسجد، يصدع بصوت مرهف.. يتدبر الآيات، ويردد العظات الالهية...!
اقتربت قليلاً، فإذا هو أحد عمال الحي، ممن يمتهنهم الناس، وليس من أصحابنا العباد ، فأدركت حينها أن لله أهلاً، ولكتابه خواصاً، لايعرفهم أحد...!
5- ثورة الجيــــاع ..!
يتدفق الفقراء الجياع الصائمون والذين ليس لهم مأوى يكلؤهم..!
ولا أنيس يؤنسهم بعد الله سوى أفضال المحسنين ، وتبرعات المؤسرين ...!
فتزدحم بهم المساجد، وتكتظ بهم الطرقات والدوائر والممرات..
وأكثرهم صيام، مابين عجوز ، وكسيح ، وأرملة، ويتيم مشرد !!!
فتشرئب لهم نداوة الأخّيَار، وصّبّاحًة الصائمين الباذلين، فيطفئون لهيب جوعهم بتمرات، وآخر بقطرات، وثالث بوجبات تزدحم عليها الطوابير الطويلة!!
فعلاً ثائرون ولكن لهم مطفئون پآلرَحُمًة والإحسان ، حيث ترق النفوس ، وتتهذب الأخلاق، ويتراحم الناس ، طلباً لما عند الله من جنات ونهر ، ونفائس كالدرر، فهل من متأمل ...؟ !!
6- بائع الفطائـــر ..
هنا مسجدنا العتيق الأثري المتجدد، بتراتيل القانتين الضارية في أعماق الخشوع، والرهبة والإنابة..
ثم بجانبه من قريب بائع فطائر، تعلوه حرارة الشمس المتوهجة، فيحمر وجهه المبيض، وهو مهين الصلاة والتعامل !!
ولكن لما أشَرٌقّ نور رمضان، وشعت بسماته الخضراء، حسّن من حاله، وبادر لمصلاة يقنت ويصلي، ويتأخر للتلاوة ...
قد طاب منظره ، وهدأت أعصابه ، حتى كان رمضان مغيراً لتلك الصورة الُسٌابُقُة، وقد كساه ثوباً جُدَيَدَا، لايرى عليه أثر الخلل والتكاسل..!
وبعد العصر يبادر الِى محله، لبيع الفطائر الزاكية بحلاوة رمضان، وماء الورد والريحان...!
7- الفتى المخبت ..
رغم حداثة سنه، وقلة علمه إلا أن الناس يحبون صوته الشجي..
الذي يخطف الأبصار ، ويمزق الوجدان، فيحفر فيه المواعظ الزاكية، والذكرى الندية...!
يدخل إلى مسجده الصغير، ذي البناء القديم الممتد فوق أربعين سنة، وعليه آية الخشوع، وراية السمت الحسن.... !!
لايحمل بشتاً، ولايظهر الفخامة، بل منكسراً، متواضعا ، وعمره لا يتجاوز العشرين السنة ...
فتجد المسجد غاصاً بأهله، متشوقين إلى عذوبة التلاوة ، وشجن الترتيل الآسر..
8- إفطار جماعـــي..
انصرف من صلاة العصر ، فقرأ درس الصيام العجيب بصوت أخاذ ، ونبرة مؤثرة ، حتى وددنا لو طال الحديث الجميل ..
ثم قال : اليوم عندنا إفطار جماعي لأهل المسجد، كلٌ بما تجود به نفسه ، وبلا تكلف باهظ... يهمنا حضوركم، إخوة الإيمان، وشاركوا إخوانكم الفقراء...
وقبل المغرب بلحظات ، توافد الناس، هذا بصحنه المملوء وذاك بقدره..
وهذا بوعائه الساخن ، وذاك پآلعصير البارد وصاحب الماء ، وحمّال التمر ... منظر رائق....، يشعرك بعظمة الإسلام ، وتراحم الناس ، ومحبتهم لبعضهم البعض....
كثر الفقراء ، وتعاظم الطعام حتى أكل الجميع بصحبة إمام المسجد اللبيب ، الذي وصل القلوب بعد انقطاعها ، ولملمَ الجراح بعد اتساعها، وصنع لحمة التواصل والتعاطف ، بعد اندثارها..
فيالله هو عجيب هذا الشهر الكريم ، بلحظه، وسحره وفطره وظمئة ، وفرحه وحزنه ...؟!
فرح الناس، وابتهج الأطفال، وضحك الفقراء، وامتلأت نفوسهم نوراً وسروراً..
لكأنهم في يوم عيد بهيج .... لم يروا مثله، أو ينظروا شبيهه...!!
(9) متعار كان ..!
الشمس دانية على المدينة تحفها بلهيبها المتوهّج، وحرارتها المتزايدة...
والطرقات مكتظة پآلسيارات، والعربات المتوقفة...
والسوق يعتلج پآلأصوات، وباعة المطعومات..... يدخل الحمال مسرعا فيصطتدم برجل آخر !! فيثور وينظر، ويسب ويشتم، فيرد عليه الحمال فيدنوان من بعض، ويجتمع الناس... غفر الله لكما.. صوما..
أي رمضان..! فيقول الرجل: هو لايعرف الصوم!! فيرد الحمال: لا تعال علّمني، ونحن نصلي ونصوم قبل أن تولد، فيشتدان ويغضبان !!
فينطلق بائع اللحوم ذو القميص الأزرق وقد علته البسمة، ياعجبا لكما، تفسدان صومكما (اللهم إني صائم)، فيفك بينهما ويصالحهما، حقكما علي، إجعلوها في هذه المرة...!!
(10) المنفِّــــر..!
دخل في التراويح ، صوته ليس بشجي ولا حسن !!
ولا يحمل ذرة خشوع.. فأطال في الصلاة، وغاص إلى صفحات معدودات في ركعة، وتسليمة واحدة..
فتقلص عدد المصلين ، وتفرقوا إلى مساجد القرية... يبحثون عن سواه...!!
أسرَّ اليه خليله المصاحب له : لو خففت قليلا ً أو أتيت بذي صوت حسن ياأباهمام...
فقال: لا...! أحب أن أراجع حفظي... ومن أحب يصلي معنا، أو ينصرف.. وانصرف الناس، وانصرف صديقه بلا رجعة مع المنصرفين...!!