ديري مقهور ديري جديد
الساعة : عدد المساهمات : 6 نقاط : 19 التقيم : 1 تاريخ الميلاد : 12/09/1991 تاريخ التسجيل : 25/04/2012 العمر : 32
| موضوع: يا دير الجمال الساحر , هيأتُ نفسي وحقائبي فانتظرني على الشواطئ الهادئة تحت الأربعاء أبريل 25, 2012 1:51 pm | |
| بسم الله الرحمن الرحيم
عائلة جميلة كجمال الزمن الذي عشناه جيراناً في الحميدية الحبيبة , لا أدري متى تعارفنا أو تآلفنا ؟ لكني وعيت على الدنيا وهم جزءٌ منا , لا يفصل بيتنا عن بيتهم إلا جدار هشٌ من الطين ،ليسو أقرباء ولكنهم بَيْنَ بَيْن , أقرب للأهل , كعيونهم التي هي ليست سوداء ولا صفراء لكنها بَيْنَ بَيْن , واسمرار وجوههم يعيش في المشاعر , يفور بها ويسبي هدوءها .. لهجتهم البوكمالية المميزة , التي تمطُّ آخر الجملة تُغني لسامعها لحناً فاتناً .. ترسلني أمي إلى (خالتي جميلة ) بصحن من غدائنا , تستقبلني العيون العسلية على الباب يأتيني صوت الأم من عمق الحجرة البعيدة , تسأل عن الطارق , فتجيبها اللعوب والصحن بيديها وعيناها عليّ : ـــ محمد , تكررها ممطوطة ملحنةً , وتتابعني وأنا أقفز إلى البيت , ويُطرق بابنا , فتدخل علينا بصُبة مثلها , هذه الفتّاكة تصر على أن تكون هي البريد دائماً ؟ تنظر بعينٍ كليلةٍ , وبطرف عين إلى شخصٍ آخر , تتكلم مع أمي فينطق الغناء بآخر كل كلمة , فأرى بغداد أمامي يغني لها داخل حسن على مقاهي دجلة , وجسر المسيَّب , وشارع الرشيد , تأخذ منها أمي ما بيدها , وتتقصد أن تشكرها بنفس اللهجة , فتضحك الفتاة لأنها تدرك قصد أمي ..
يعج بيت جيراننا بالبنات والأولاد , وأشكالهم متقاربة , لطيفون لدرجة أنك تأنس بهم من أول مرة تلتقيهم أو تسمع حديثهم , يدعوني ( مجّودي ) أحد أبنائهم , وقريب من سنّي فأدخل بأدب متكلَّف , وأسلّم فأُفاجأُ بأمي هنالك تجلس مع الجارة تستقبلني المرأة بالترحيب والدعاء .. ثقيلة هذه المرأة , ووفيّة , من الرعيل الأوّلِ تصر على المنقل والشاي المخدّر أبو قوري , عليه صورة شابٍّ وسيم يقولون أنه كان يحكم العراق واسمه جميل مثله ( فيصل )يحيط بصورته ،وكلاهما فيصل والقوري يتحديان النار التي دُفِنا برمادها,لأنه يبتسم رغم الحرارة .. يُسْكَبُ الشايُ فتنتشي الغرفة العابقة بالأصالة التي تصر الجارة على أن يفوح عطرها الساحر القديم بالبخور المعتّق ,وفي الجدار صورة كبيرة غير ملونة معلقةً لعائل الأسرة الذي تركهم بعد وفاته في ذمة أخوالهم , وقوة صبر لدى الأم , هذا ما فهمته من أحاديثها لأمي في زياراتها لنا .. نجلس أنا ومجّودي كلٌّ إلى جانب أمه , فيرتفع القوري بيد جميلة ليُسْكَبَ لي ولصديقي السلافُ الخمري ويقدم لي بالخزف الأزرق , والملعقة الصغيرة , وقطعتين من السكرالمقطّع .. أتصنع الأدب الجم , وأُطرِقُ خجلاً , وأختلس نظرةً لأمي فأجدها تخفي ابتسامة أحرجتني.. تسألني المرأة عن المدرسة والدروس , فأهمس بالحمد لله .. فتدعو لي , وتعود للحديث مع أمي ومن كلمة لأخرى قالت أن قريباً لهم خطب أحد بناتها فأنتفض بلا وعي وأشهق : ـــ أيّ واحدة ؟! فتمر لحظة صمت , شعرت أن كل حرارة المنقل نُثِرتْ بوجهي , انفجرتْ المرأتان تضحكان حتى رفعتْ جميلة ملفعها إلى عينيها وأخفضت رأسها فغاب صوتها من الضحِك وأمي تفعل مثلها , أما أنا .. أما أنا.. فكيف أرجع سؤالي لجوفي؟ أيها الواشي بنفسك , المغرور بحفظ سرك , هذا أنت أمام الحقيقة التي ظننتَها بعيدة وهي أقرب إليك من عينيك , جاء بها اندهاشك , وسؤالك الأهوج في وسط بيت أم عيون عسلية , وأمام أهلها , كلما ساد الصمت , عادتا تضحكان .. حتى مجّودي كان يبتسم بأدب , قمتُ أجرجر نفسي , لم أرد على ندائها وهي تقسم بالغالين أن أعود لأكمل الشاي , وفي البيت دفنتُ وجهي بأول ستارةٍ أغسل بها حُمّاه وإحراجي .. إذاً !!! فغرامي مكشوف , لله ما أدهى النساء , راجعتُ نفسي فما تذكرتُ شيئاً يشير لظنونهم فمن أين جاءتهم الأخبار ؟ إنها الدِّقّة العجيبة عندهنّ بمثل هذه المسائل .. وربما الخبرة .. جاءتني الرسالة مع أمي , قالتها ضاحكة : تسلم عليكم خالتك جميلة وتقول لك المخطوبة الكبيرة , انفجرتُ بوجه أمي وقلت : ما شأني بكبيرة أو صغيرة , وانزويت لا أخرج إلا إذا انفتح باب البيت , أُسرع إلى النافذة , أنظر مَن يدخل ؟ وانفتح ذات ظهر ودخلت بسيمة وبيدها ( صُبّتُها ) , دخلت أمي إلى المطبخ تُفرغ الصحن وتملأه من غدائنا , فاليوم لا موصل لصبّتنا إلا فاتنتي , وعندما اطمأنتْ أن لا أحد يراقبها , ولم تدرِ أنني في النافذة أدارت رأسها يميناً ويساراً بسرعة من يريد سرقة شيء , ضحكتُ , لأنني عرفت أنها كانت تبحث عني , وخرجَتْ مع حملِ سلام وكلاماً آخر لم أسمعه , لأن الفتاة كانت تهز رأسها لأمي ..
وبعد ساعة , دخلت خالة جميلة تسلم بصوتٍ عالٍ : ـــ وين اهل البيت ؟ لمحتُ أمي تشير لها إلى مكاني , فدخلَتْ عليّ معاتبةً : ـــ شعجاب ؟ شلوون؟ ما تكول جيرانّا شبيهم ما بيهم ؟ عشتو حمّودي , لا تجيب لخالتك صبّة لاتكوول؟ أروحلك فدوة عيني , مجودي يسأل عنك خطيّة , دا كُللي أحّد زعّلااااك أحّد حاجاك ؟ أين أمي لتجيب عني ؟؟ ورطة تسوقها ورطة , واختلط العرق بالحمى .. أدركت أن تمثيليةً تجري أمامي , جاءت أمي مرحّبةً , كأنها لا تعلم عن شيء , أمسكتْ جميلة بيدي , وقالت : ـــ آني جايّة اليوم أخطب حموديكووم لبسّامتنا , شْكِلُتو بعااااد ؟؟ تصنّعتْ أمي الجد والمفاجأة , وقالت : ماشالله ماشاالله وهلهلت بصوت هادئ ,قالت: ـــ شرايحلك , هاي بسيمة صارت نصيبك , صاحت الجارة : ـــ ترى مجودي عالباب يريد يفوت يسلم ويبارك بعد .. يا ساتر استر , لم تنته التمثلية , لماذا يصرون على أنني انخدعت لهم ؟! دخل مجودي , يسلم ويبارك ( حتى أنت يابروتوس ) عجيب , عجيبٌ أمر هؤلاء الطيبين , كل هؤلاء يسعون لإرضائي ؟ أين هؤلاء الرائعون ؟؟ أين مجّودي الهادئ المتبسّم دائماً ؟؟ أين هي جميلة ؟ يالجمال الطبع , وجمال الأصل , كأنها أم لي , أين هم الطيبون ؟؟؟
* * *
ذات يوم كنت أبحث في كراج التكاسي عن سيارة أسافر بها .. فقيل ستحضر السيارة بعد ساعة فجلست أحتسي الشاي منتظراً , قام إليّ شابٌّ يبتسم , وصافحني قائلاً : ـــ حضرتك مو أبو جاسم ؟؟ واخترقتْ لهجته غبار السنين لتعود بي في لحظة اللقاء إلى جميلة وبسيمة أم عيون عسلية , وخفق القلب بالجمال القديم والحب الأول ولكن مع ذلك أردت التأكد أكثر فلما رأى الشاب حيرتي , قال ضاحكاً : ـــ يابا جيرانكم أوّاال بالحميدية , هاي شبيك أبو جاسم؟ آني نسيبك , نسيت بسّاماااا ؟؟ وطفقنا نضحك معاً , دفنتُ كل إحراجي القديم , وعبث الطفولة وبراءتها في الضحك جلسنا على الشاي نحيّي بعضنا من جديد , ونسأل عن أحوال العائلتين , وعرفت أنه سيتعرض للعسل الذي لازال يغني في عينيه ( يام عيون عسلية , ياحلوة يعراكيّة ) عادالأسى يطفح بجوفي , ويعصف بيومي عرفت أن خالة جميلة توفيت وتوفي أخوه الأكبر كريّم , وأخواته تزوجن , ومنهن من تعيش بالعراق وقال ضاحكاً : هَمْ خطيبتك تزوجت , فأعطيتُ لخيالي فرصةً ليتصورعشقي القديم في بيت رجلٍ غيري لاشك أنها تغيّرتْ الآن , وذهب السحر القديم , وربما كنت أعزي نفسي وحسب.. أظهر عبد المجيد أسفه لوفاة والدتي , ولافتراقنا بعد عودتهم لبلدهم , وتواعدنا على الزيارات..
هَجَرَنا الأنسُ وعاد إلى البوكمال , وهي بلدٌ بَيْن بَيْن , قدم في العراق العظيمة
وقدم في سوريا الأبيّة تشرب من بغداد عسل دجلة , ومن الدير
رحيق الفرات , فعرفت من أين عسل عيونهم ..
أتلوموني إذا دعوت للحجاز وساكنيها ؟؟ وقلت ألف مرة :
سقى اللهُ أيامَ الحِجازِ وأَهلَهُ,,,,,,,,,,,وأمطـرَ كـلَّ ساقيةٍ ومَغْنَـى
الدير الجميلة , ومَنْ شرب من جميلها الأسمر , وعاش يتنشق عبق ترابها المعطّر ومن جاورنا أيام رفيف الأماني , أين نلقاهم ؟ متى نعود لنشمّ آثارهم ؟ , ونمر من شارعٍ قديم لم تصل له معاول التغيير , فنمشي عليه , ونقول : من هنا كانوا يمرون .
يا دير الجمال الساحر , هيأتُ نفسي وحقائبي فانتظرني على الشواطئ الهادئة تحت الغَرَب النديّ الذي يُظللُ الشباب السابحين في القوائل الساخنةعلى الرمال الساحرة .
" وأدرك شهرزادَ الصباح ... "
المصدر الدير نت
" hglw]v hg]dv kj "
| |
|