معنى الغربة لغويا:
إن معنى الغربة في المعاجم العربية يشير إلى أكثر من دلالة أبرزها وضوحاً تلك التي ترتبط بالمكان والانتقال عنه،فالأزهري في تهذيب اللغة يشير إلى هذا المفهوم بقوله:{يقال:الغرب الذهاب والتنحي،ويقال أغربته وغربته إذا نحيته}والغرب أيضا هو التنحي عن حد الوطن.ويشير الجوهري في الصحاح إلى هذا المعنى بقوله:{التغريب النفي عن البلاد،وأيضاً غرب بعد،وأغرب عني أي تباعد}.كذلك يشير ابن منظور في لسان العرب إلى هذا المعنى بقوله:{الغربة والغرب النوي والبعد،ويقال أغربته وغرّبته إذا نحيته وأبعدته،والتغريب النفي عن البلد،إذاً الغربة هي البعد والتنحي.
..............................................................
بداية ظهور شعر الغربة والحنين:
شعر الغربة والحنين إلى الوطن والأرض ومن عليها من أهل وأصحاب،بدأ بالظهور بصورة بارزة في الشعر الجاهلي.ويكفي أن نقرأ المعلقات،وشعر الجاهليين بصفة عامة،حتى تسترعي انتباهنا هذه الظاهرة.وتشكل الأطلال الجاهلية مادة غزيرة في هذا الموضوع .ويكفي أن نذكر أن امرأ القيس،أول من بكى الديار،واستبكى الرفاق عليها حيث يقول:
أجارتنا إنا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب
وظهر أيضا عند غير الجاهليين،في العصر الإسلامي والأموي،تصلنا أصداء الغزل العذري،وما عاناه الشعراء من غربة الإبعاد والحرمان عن المحبوبة،من النفي والبعد عن الوطن،حيث ور جميل بن معمر ذلك في أجمل تصوير في شعره بقوله:
هــاجـت فــؤادك للحبـيـبـة دار أقـوت وغيـر آيـهـا الأمـطـار
وعـفـا الـربـيع رسومها فكأنها لـم يـغـن قـبـل بـربـعـهـا ديار
لما وقفت بها القلوص تبادرت مني الدموع وهاجني استعبار
أما في العصر العباسي ففيه انصهرت جميع اتجاهات الشعر على مر عصوره فضلاً عن موازنته زمنياً لمرحلة ازدهار الأدب في الأندلس.ولقد كانت بغداد في عصر الخلافة العباسية تمثل مركز جذب لكثير من الشعراء الذين كانوا يفدون عليها من أماكن مختلفة تاركين أسرهم وديارهم.وهكذا اجتمع في البلاط العباسي شعراء متنافسون.كان للصراع بينهم دور هام في تغريب بعض الشعراء.وأحياناً نفيهم،بل وصل الصراع والتنافس بينهم أن استعان بعضهم على بعض بذوي السلطة لاستصدار أحكام ضدهم بالسجن.
كما نجد أن أبا تمام على الرغم من اتصاله بالخلفاء والوزراء فقد كان كثير الترحال والتنقل،حتى ألف هذه الغربة،فهو لا يقر به قرار حيث فرقته الغربة عن أهله وأحبابه وإخوانه على نحو ما يقول:
ما اليوم أول تَوْديعي ولا الثاني البينُ أكثر من شوقي وأحزانــي
دَعِ الفـــراق فإنّ الــدهرَ ساعده فصار أملكَ من رُوحي بجثماني
على هذا النحو ورد كثير من الشعر الذي يشكو فيه أصحابه من حياتهم في الغربة وما يلاقونه من آلام وصعوبات حتى أصبحت العودة إلى الوطن حلماً صعب المنال أو أمراً مستحيلاً يقف الموت دونه.
دواعي ظهوره: أن العوامل الأساسية التي تعد سبباً مهماً في ظهور شعر الغربة تتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية التي مرت بها الأندلس ويمكن تقسيمها إلى:
1) عوامل داخلية: تتمثل في صراعه الداخلي بين أفراده حكاماً ومحكومين.
2) عوامل خارجية: تتمثل في الضغط المتزايد والصراع الدائم للمالك المسيحية الشمالية مع الأندلس.
3) الفتنة التي أصابت الأندلس عقب سقوط الخلافة الأموية،وما نتج عنها من صراع مرير بين عناصر المجتمع الأندلسي.
4) ظهور العصبيات حيث اعتمد كل ملك من ملوك الطوائف على طائفة تضمر العداء لطائفة أخرى،وقد دفع أهل الأندلس الثمن فادحاً.
5) معاناة الأندلسيين من المجاعات والضرائب التي كانت تفرض عليهم.
6) كما أصبحت حياة الأندلس مضطربة قلقة لا ينعم فيها أحد بالاستقرار بما في ذلك الشعراء،حيث ينتقل من مدينة أصابها الخراب إلى أخرى لا تلبث كثيراً حتى يصيبها أيضاً الخراب.فمن هنا ليس غريباً أن يتوجه الشعر في هذه المرحلة للتعبير عن آلام الغربة والإحساس العميق بالضياع في مجتمع انهارت دعائمه وأركانه.
.................................................
موضوعات شعر الغربة:
انحصرت موضوعاته في تذكر الوطن والتشوق إلى معاهده وشكوى الغربة والابتعاد عن الأرض والأهل والخلان،والندم على الاغتراب،وتصوير الحسرات لفقدان البلد والبعد عنه،وبث التجارب الذاتية للشعراء في ديار الغربة ،وتصوير ملاعب الصبا وتذكر أيامهم وعهودهم السعيدة في ديارهم.وظل الشاعر الأندلسي يتمزق قلقاً وإحساساً بالغربة،وظل شكواه عنيفاً،وبان حنينه كبيراً شامخاً لا تهزه هبات الريح العاتية.
أنواع الغربة في الشعر الأندلسي:
1- الغربة المكانية:
هو ذلك الإحساس الذي يشعر به الإنسان في بعده عن وطنه وهذا النوع من الغربة ليس جديداً على الشعر العربي،فقد أخذ شعراء العصر الجاهلي يعبرون عن غربتهم وتركهم أوطانهم وتكبدهم عناء السفر،معبرين في أثناء ذلك عن حنينهم وأشواقهم إلى ديارهم وربوعهم التي غادروها باختيار منهم.أما أولئك الذين خرجوا مع الفتوحات الإسلامية تاركين أوطانهم إلى عوالم جديدة استقروا بها،فقد بقيت معهم ذكرياتهم وعواطفهم مع عالمهم الأصلي الذي رحلوا عنه،وما زال الحنين والشوق يراودهم من آن لأخر معبرين عن غربتهم في عالمهم الجديد ورغبتهم الشديدة في العودة إلى معاهدهم وديارهم التي حالت الظروف دون عودتهم ونجد التعبير عن هذه الغربة المكانية متناثراً في أشعارهم
على نحو ما نجد في قول عبد الرحمن الداخل:
أيهـا الـراكـب الميممُ أرضي أقــرِ مـــن بعضي السّلامَ لبعْضِي
إن جسمي كمـــا تراه بأرضٍ وفــؤادي ومـــالـكــيــــه بـــأرض
قــدر الـبيـن بيننـا فـافـترقـنا وطوى البين عن جفوني غمضي
قـــد قضى الله بالبعــاد علينا فــعسـى بـاقـتـرابـنا سوف يقضي
ومن بين الشعراء الذين عبروا عن هذا النوع من الغربة بصورة واضحة ابن دراج القسطلي حيث يقول:
شـــدّ الجــلاءُ رحـالَــهم فتـحملت أفلاذ قــلــب بـالـهـُمـوم مـبـددِ
وحَدَتْ بهم صعقاتُ روعٍ شرَّدتْ أوطانَهم في الأرض كلَّ مشردِ
فالشكوى واضحة من تشرده وضياع أوطانه، ومن تتابع الهموم التي أصابته هو وأسرته كبيرها وصغيرها سواء فلا مستقر ولا مستودع إلا العراء في حر الشمس من بعد ظل القصور.
ويقول أيضا في إحدى قصائده المدحية للمنصور بن أبي عامر يبث زوجته هموم الغربية، وأشجان النوى:
إذا شئت كان النجم عندك شاهدي بلوعة مشتاق ومقلة ساهدي
غريب كساه البين أثواب مدنف وحفت به الأشجان حف الولائد
ومن الشعراء الذين عانوا من الغربة المكانية الشاعر ابن زيدون فنسمعه يقول في غربته بأقصى الشرق:
غريب بأقصى الشرق يشكر للصبا تحملها منه السلام إلى الغرب
وما ضر أنفاس الصبا في احتمالها سلام هوى يهديه جسم إلى القلب
ويحلم المعتمد بن عباد بالعودة إلى وطنه( إشبيلية) وهو يشعر بالغربة في السجن:
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة أمامي وخلفي روضة وغدير
بمنبتة الزيتون مورثة العلى يغني حمام أو ترن طيور
بزاهرها السامي الذرى جاده الحيا تشير الثريا نحونا ونشير
وتتفاوت قسوة هذه الغربة المكانية على الشعراء وفقاً لتفاوت مكانتهم التي كانوا عليها قبل الغربة فهذه المحنة لا تقف عند عامة الناس،بل تمتد لتشمل الملوك والوزراء الذين لحقتهم المحنة ووضعوا في السجن أو نفوا من بلادهم وهناك نماذج على ذلك مثل عز الدولة بن صمادح،والمعتمد بن عباد
الغربة الزمانية:
هي تلك الحالة النفسية التي تصيب الإنسان داخل وطنه في مرحلة زمنية غير مواتية تجعله يشعر بالغربة بين أهله وذويه في مجتمع قد نشأ فيه.ويرجع ظهور هذا النوع من الغربة إلى ما كان يسود بعض الفترات التاريخية في الأندلس من فتن وصراعات سياسية وظلم فبعض الحكام كانوا بمثابة سيف مسلط على رقاب العباد بما في ذلك الشعراء،فهم يبغون في الأرض بغير الحق ويظلمون الناس ولا يقدرون الشعر والشعراء لجهلهم ولانشغالهم بتوافه الأمور يضاف إلى ذلك أن بعض الطبقات الاجتماعية استغلت الأوضاع المتدهورة وتسلقت حتى وصلت إلى مكانة ومنزلة اجتماعية لا تستحقها ووصلوا إلى مراتب ومناصب دون امتلاكهم مقومات تجعلهم جديرين بها بل زاحموا الشعراء والمفكرين في مكانتهم الاجتماعية القديمة وأزاحوهم عنها مما عمق لدى الشعراء الإحساس بالمأساة. ولقد أخذ التعبير عن هذا النوع من الغربة صوراً متعددة تبدأ بذم الزمان الذي عاش فيه هؤلاء الشعراء فهم يتوجهون باللائمة عليه ويلتمسون العذر لأنفسهم أن جاءوا في زمن ليس بزمانهم على نحو ما نجد في قول أبي محمد بن مالك القرطبي:
وإنَّما العذرُ لي أن جئتُ في زمنٍ لا الجيلُ جيلي ولا الأزمانُ أزَماني
كما أن هناك غربة تصيب الإنسان بسبب التقدم في العمر،فهذا ابن خفاجة يبكي زمن الشباب في شعره ويندبه في حزن عميق،وقد سطر أبياتاً يحلم فيها باستعادة زمن الطفولة والشباب حيث يقول:
أرقــت لذكـرى مـنـزل، شط،نـازح كلفـت بـأنفـاس الشـمـال لـه شما
فـقـلت لـبـرق يـصـدع الـليـل،لامـع ألاحي عني ذلك الـربع والرسما
ودون الصبا،إحدى وخمسون حجة كأنـي وقـد ولت أريت بـها حلـماً
فيـا ليت طير السعد يسنح بـالمـنـى فأحظى بها سهما وأنأى بها قسما
ويـا ليتني كـنـت ابـن عشر وأربـع فـلـم أدعهـا بنتا ولــم تدعني عما
إن هذه الأبيات مشحونة بالانفعال،مزدحمة بصيغ التمني،والنداء:{فيا ليت}{يا ليتني}، فكلها نداءات يراد بها التمني،تمنيات اليائس،الذي تتأجج في صدره رغبة عارمة في الرجوع إلى زمن الشباب.
الغربة الروحية:
هي أن يشعر الشاعر بغربته في هذا الوجود كما في حالة الزهاد الذين يتحدثون عن غربتهم في هذه الدنيا وآمالهم في العودة إلى عالمهم الأول عالم الروح أو الآخرة.فهذه الغربة الروحية هي نتاج لكل العوامل التي أنتجت الغربتين المكانية والزمانية معاً وإن كانت تأخذ بعداً دينياً يتصل بنفس الإنسان وروحه،فهي مرتبطة ارتباطاً أساسيا بالدين الذي يحكمها ويحدد مسارها وتوجهاتها والذي يعمق الشعور بأن هذه الحياة التي نحياها وهذه الأرض التي نعيش عليها ليست هي حياة الروح الخالدة ولا هذه الدنيا باقية،لذلك فهو يعيش فيه كأنه غريب،وينتظر هذا اليوم الذي تعود فيه الروح إلى عالمها، فعلى الرغم من وجود هذا النوع من التعبير عن الغربة في الشعر المشرقي في مرحلة مبكرة فإن هذا الإحساس أخذ صورة أكثر بروزاً في الأندلس وأكثر تكراراً وعمقاً وذلك نظراً لمشاهد الخراب والدمار التي كانت تتابع أمام أعين الأندلسيين،فكانت هذه الظروف السياسية والاجتماعية التي مرت بها الأندلس دافعاً لجعل الناس والشعراء خاصة يبحثون عن مخرج مما هم فيه فكان الدين بمثابة ملجأ يلجأ ون إليه ليهون عليهم أمر هذه الدنيا ويزهدهم فيها ويعطيهم الدافع على تحمل مآسيها،وفي الوقت الذي يصبح أملهم أن يأتي ذلك اليوم الذي تتخلص فيه الروح من أسر هذا العالم ومن أسر الجسد،وذلك عن طريق الموت الذي به تعود الروح إلى عالمها وهذا الأمل تسبقه خطوات فلا عجب أن يبدأ شعراء هذه الغربة أولى خطواتهم بالحديث عن حقارة الدنيا وهوان شأنها مما جعلهم يعرضون عنها ويعزفون عن متاعها ويفضلون حياة الفقر مع صعوبتها على حياة الغنى وما قد تجره عليهم من تكالب وصراع
فهذا ابن اللبانة يقول :
انفض يديْكَ من الدنيا وساكِنها فالأرض قد أقفرت والناسُ قد ماتُوا
وهذه النظرة إلى الدنيا وتصويرها على هذا النحو كثيراً ما تكررت لدى الشعراء حتى ولو لم يكونوا من الزهاد،ذلك لأنها مستمدة من التراث الديني الذي يعيش في ظله أولئك الشعراء.ولقد كان الشعراء يفخرون بفقرهم وتجردهم الذي هو علامة تعلق قلوبهم بربهم وإعراضها عما تتعلق به قلوب الناس في زمانهم الذي غابوا عنه كما يقول الششتري:
لقد تهتُ عجباً بالتجُّردِ والفقرِ فلم أندرجْ تحتَ الزمانِ ولا الدهرِ
وجـاءت لقلـبي نفـحةٌ قـدسـيةٌ فغبتُ بها عن عالم الخـلقِ والأمرِ
ولقد تجنب شعراء هذه الغربة الاختلاط بالناس فهم يتوجسون منهم بل يفرون من لقائهم لأنه لا يرى إلا الشر في خلطتهم ولا يجنى إلا الندم في مصاحبتهم،كما أتاح لهم ذلك فرصة النسك والعبادة والتقرب إلى الله وهو مالا يتحقق بوجودهم بين الناس خاصة أن نظرتهم للإنسان نظرة لا تلمح فيه سوى الشر والغدر والخداع على نحو يصير فيه الذئب أكثر أمناً من الإنسان الذي يجب الفرار منه على نحو ما يصور أبو بكر بن عطية ذلك بقوله:
كن بذئبٍ صائدٍ مستأنساً وإذا أبصرتَ إنسـاناً فـفـرْ
إنـما الإنـسانُ بحـرٌ مالَـهُ ساحلٌ فاحذْرهُ إياكَ الغررْ
الخصائص الفنية لشعر الغربة بين الابتكار والتقليد:
لو تأملنا شعر الغربة في العصر الأندلسي فسنجد العديد من الصور المبتكرة التي تعكس أصالة شعراء الأندلس في تفاعلهم مع بيئتهم وواقعهم،وعدم وقفوهم أو تجمدهم عندما يرد إليهم من المشرق،فنجد صوراً تستمد قيمتها وأصالتها من محليتها فهي وليدة واقعها السياسي والاجتماعي حتى تلك الصور التي أملتها عليهم ثقافتهم العربية المشرقية قد صبغوها بصبغة أندلسية تكتسب من خلالها أبعاداً وملامح جديدة.ففي تعبيرهم عن غربتهم المكانية نالت صورة الرحيل ومغادرة البلاد اهتماماً خاصاً وتفنن شعراء الأندلس في تصوير هذا الرحيل الدائم في صور جديدة على نحو ما نجد في تصوير ابن دراج لكثرة رحيله ودوام غربته.ففي صورة محلية تعبر عن حالة الاغتراب الدائم اعتماداً على طبيعة الأندلس كشبه جزيرة يتساءل ابن دراج بعد دامت غربته في البحر بقوله:
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان؟
فطول البعد ووحشة البحر جعلتهم قريبين من الموت ولم يعد بينهم وبينه حواجز أو فواصل،لذلك اعتمدت الصورة على التشبيه البليغ(البحر قبر الماء أكفان)الذي لا يفصل بين المشبه والمشبه به وتضيق المسافة بينهما على نحو ما ضاقت بين حياته وإحساسه بقرب الموت منه وهو ما نراه في الشطر الأول حين يتساءل متشككاً عن إمكانية العودة إلى الدنيا وكأنه ليس فيها.
وكما كانت الفتنة سبباً للرحيل كان غزو المدن الأندلسية وسقوطها في يد النصارى مدعاة للرحيل،وقد شُغل الشعراء بهذا السقوط وصوروه في صورة مبتكرة،يقول الشاعر الأندلسي:
يا أهلَ أندلسٍ رُدّواُ المُعَارَ فما في العُرْفِ عاريةُ إلا مردات
ألَمْ تَروْا بيْدَقَ الكُفّار فرزَنَهُ وشاهنا آخر الأبْياتِ شهماتْ
فقد جعل من استرداد المدن الأندلسية كالعارية التي عادت إلى أصحابها بعد أن استعارها المسلمون بعضاً من الوقت ويرشح هذه الصورة بالتمثيل بلعبة الشطرنج وتصارع قطعها وكيف ينتهي الدور بموت ملك الأندلسيين على رقعة الشطرنج كرمز للسقوط .
الإكثار من أسلوب التمني في التعبير عن الرغبة في العودة للوطن.
المقابلة بين الزمنين القديم والحاضر في وصف المعاناة التي يعيشها الشاعر في غربته.
صورة أخرى مبتكرة نراها في التعبير عن سقوط قرطبة التي كانت مركز للخلافة بل عاصمة مزدهرة للعالم لفترة طويلة،فالشاعر يرى في فترات الازدهار أن الزمان يقرضها ويدينها ثم يمهلها حتى إذا حان سقوطها جعل ذلك بمثابة مجيء أجل الدَّيْن الذي تتقاضاه جملة واحدة على نحو ما يقول ابن عذاري:
أنظَرهَا الدًَّهْرُ بأسلافِهِ ثُمَّ تقاضَى جُمْلَةََ الدَّيْنِ
وبخروج الأندلسيين من هذه المدن وتمكن النصارى منها ظلت قلوب الأندلسيين معلقة بها،وحنينهم لا ينقطع وقد عبروا عن شوقهم بصورة رائعة تتمثل في المقابلة التي تعتمد على القياس العقلي كوسيلة للتأثير على المشاعر لا للرحيل بل للبقاء وهي صورة السميسر التي يقول فيها:
قــالوا أتسكــنُ بــلــدةً نفـسُ العـزيزِ بهَا تهـونُ؟
فـأجــبْـتُهُــم بــتــــأوُّهٍ كيفَ الخَلاصُ بما يكـونُ؟
غرناطةٌ مثوى الجنن يــلــــــذُّ ظُلْـمَـتَـه الجــنينُ
فالشاعر يؤكد هذا الارتباط القوي بغرناطة على الرغم من معاناته فيها،فهو سعيد بوجوده بها وإن كان في ظلمة حالكة متمثلاً بسعادة الجنين بظلمة الرحم.
ولقد ارتبط شعراء الأندلس بالثقافة العربية المشرقية هذا الارتباط الذي تسرب إلى شعرهم وصورهم ماراً بتجاربهم وأحاسيسهم ومصطبغاً بوجدانهم لينتج عن ذلك محاولة الابتكار والتجديد أو التوظيف والإضافة،فيبدو أثر هذه الثقافة بين ثنايا شعرهم كنوع من تكثيف المعنى ومنحه نوعاً من العمق بما يضفيه على السياق من إيحاءات وبما يكتسبه في سياقه الجديد من دلالات
فمثلا في موقف البحتري من زمانه نراه يتبرأ من هذا العالم وينفي انتماءه إلى زمنه على نحو ما يعبر عن ذلك بقوله:
ما كان ذا العالم من عالمي يوما ولاذا الدهر من دهري
ويوظف أبو محمد بن مالك القرطبي هذا المعنى للاعتذار عما أصابه من خمول في زمانه وبين أقرانه بقوله:
وإنما العذر لي أن جئت في زمن لاالجيل جيلي ولا الأزمان أزماني
لم يقف أثير الثقافة الشرقية عند الشعراء فحسب فهناك قاسم مشترك من الثقافة لايدعي ملكيته المشرق أو المغرب قد تسرب إلى لغة الشعراء الأدباء وامتزج بفكرتهم وشعورهم وانعكس على أسلوبهم وصورهم وكان بمثابة مجال فسيح وحلبة واسعة يتنافس داخلها الأدباء أعني بذلك القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف
ففي تصوير ابن للفتنة التي كانت من أهم العوامل التي نمت الإحساس بالغربة بأنواعها نراه يصور أثرها على هذا النحو:
لكنها فتن في مثل غيهبها تعمى البصائر إن لم تعم أبصار
فقد استلهم الصياغة القرآنية في قوله تعالى
فإنها لاتعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(الحج :46)
وفي وصف ابن حريق لما أصاب بلنسية على يد العدو وحصارها وما أصاب أهلها من جوع أثناء الحصار بقوله:
فقُلْ هي جنةٌ حُفَّتْ رُبَاها بمكرُوهَيْنِ مِنْ جُوعٍ وحَرْبِ
فهذا البيت يقتفي أثر حديث نبوي شريف في وصف الجنة حيث يقولe:{حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات}.فبلنسية جنة ولكنها حفت بمكروهين وهما الجوع والحرب.
ووصل الأمر بشعراء الأندلس أن يشبهوا أنفسهم ببعض الأنبياء في مواقف بعينها تتصل بالغربة والضياع.فها هو أبو القاسم الإلبيري المعروف بالسميسر يصور ضياعه بين قومه مشبهاً نفسه في ذلك بالنبي نوح عليه السلام حيث يقول:
ضِعْتُ فِي معْشَرٍ كمَا ضاعَ نُوح بينَ قََومٍ فأَصْبَحُوا كُفَّاره
على هذا النحو عبر شعراء الأندلس عن غربتهم مبتكرين ومضيفين ومستفيدين من كل ما سبقهم من شعر وغير شعر دون وقوف على حدود التقليد بل عبروا عن شخصيتهم المتميزة وبيئتهم التي نشأوا فيها وواقعهم الذي انفعلوا به ومع