الخليفة لايكون أبداً إلا ثانياً وسمعت شيخنا أبا العباس أحمد بن عمر يقول: إنما استحق أن يقال ثاني اثنين لقيامه بعد النبي بالأمر كقيام النبي به أولاً، وذلك أن النبي لما مات ارتدت العرب كلها ولم يبقى الإسلام إلا بالمدينة وجواثا( )، فقام أبو بكر يدعو الناس إلى الإسلام ويقاتلهم على الدخول في الدين كما فعل النبي فاستحق من هذه الجهة أن يقال في حقه ثاني اثنين( ).
ح- قال تعالى : {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (سورة التوبة، آية:100) الآية ووجه دلالة الآية على أحقية الصديق بالإمامة بعد النبي أن الهجرة فعل شاق على النفس ومخالف للطبع فمن أقدم عليه أولاً صار قدوة لغيره في هذه الطاعة وكان ذلك مقوياً لقلب الرسول عليه الصلاة والسلام وسبباً لزوال الوحشة عن خاطره وكذلك السبق في النصرة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قدم المدينة فلاشك أن الذين سبقوا إلى النصرة والخدمة فازوا بمنصب عظيم وإذا ثبت هذا فإن أسبق الناس إلى الهجرة أبو بكر الصديق فإنه كان في خدمة المصطفى عليه الصلاة والسلام وكان مصاحباً له في كل مسكن وموضع فكان نصيبه من هذا المنصب أعلى من نصيب غيره وإذا ثبت هذا صار محكوماً عليه بأنه رضي الله عنه ورضي هو عن الله وذلك في أعلى الدرجات من الفضل، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون إماماً حقاً بعد رسول الله فصارت هذه الآية من أدل الدلائل على فضل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعلى صحة إمامتهما( ).
خ- قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (سورة النور، آية:55).
هذه الآية منطبقة على خلافة الصديق وعلى خلافة الثلاثة بعده فلما وجدت هذه الصفة من الاستخلاف والتمكين في أمر أبي بكر وعمر وعثمان وعلي دل ذلك على أن خلافتهم حق( )، وقال الحافظ بن كثير: وقال بعض السلف خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حق في كتاب الله ثم تلا هذه الآية( ).
د-قال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آية:16) قال أبو الحسن الأشعري رحمه الله تعالى
وقد دل على إمامة أبي بكر في سورة براءة فقال للقاعدين عن نصرة نبيه عليه السلام والمتخلفين عن الخروج معه : {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ} (سورة التوبة، آية:83). وقال في سورة أخرى: {سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} يعني الى قوله: {لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} ثم قال الله تعالى {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا} وقال تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} -يعني تعرضوا عن إجابة الداعي لكم الى قتالكم- كما {تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (سورة الفتح، آيتان:
15-16). والداعي لهم إلى ذلك غير النبي قال الله -عزوجل- له {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا} وقال في سورة الفتح: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} فمنعهم عن الخروج مع نبيه عليه السلام وجعل خروجهم معه تبديلاً لكلامه فوجب بذلك أن الداعي الذي يدعوهم إلى القتال داع يدعوهم بعد نبيه ( )، وقد قال مجاهد في قوله: {أُولِي بَأْسٍ شَدِيد}. هم فارس والروم وبه قال الحسن البصري. قال عطاء: هم فارس وهو أحد قولي ابن عباس ، وفي رواية أخرى عنه أنهم بنو حنيفة يوم اليمامة فإن كانوا أهل اليمامة فقد قوتلوا في أيام أبي بكر: وهو الداعي إلى قتال مسيلمة وبني حنيفة من أهل اليمامة، وإن كانوا أهل فارس والروم( )، فقد قوتلوا في أيام أبي بكر وقاتلهم عمر من بعده وفرغ منهم وإذا وجبت إمامة عمر وجبت إمامة أبي بكر كما وجبت إمامة عمر لأنه العاقد له الإمامة فقد دل القرآن على إمامة الصديق والفاروق رضي الله عنهما، وإذا وجبت إمامة أبي بكر بعد رسول الله وجب أنه أفضل المسلمين ( ).
هـ- قال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (سورة الحشر، الآية:
.
وجه دلالة هذه الآية على خلافته أن الله عز وجل سماهم (صادقين) ومن شهد له الرب - جل وعلا- بالصدق فإنه لايقع في الكذب ولا يتخذه خلقاً بحال وقد أطبق هؤلاء الموصوفون بالصدق على تسمية الصديق (خليفة رسول الله)( ) ومن هنا كانت الآية دالة على ثبوت خلافته ( ).
7- الأحاديث التي أشارت الى خلافة أبي بكر :
وأما الأحاديث النبوية التي جاء التنبيه فيها على خلافة أبي بكر فكثيرة شهيرة متواترة ظاهرة الدلالة إما على وجه التصريح أو الإشارة ولاشتهارها وتواترها صارت معلومة من الدين بالضرورة بحيث لايسع أهل البدعة إنكارها( ) ومن تلك الأحاديث.
أ- عن جبير بن مطعم قال: أتت امرأة النبي فأمرها أن ترجع إليه قالت: أرأيت إن جئت ولم أجدك - كأنها تقول الموت- قال إن لم تجديني فأتي أبابكر( ).
قال ابن حجر: وفي الحديث أن مواعيد النبي كانت على من يتولى الخلافة بعده تنجيزها وفيه رد على الشيعة في زعمهم أنه نص على استخلاف علي والعباس( ).
ب- عن حذيفة قال: كنا عند النبي جلوساً فقال: إني لا أدري ماقدر بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي وأشار الى أبي بكر وعمر (وتمسكوا بعهد عمار وماحدثكم ابن مسعود فصدقوه)( ).
فقوله : (اقتدوا باللذين من بعدي) أي: بالخيلفتين اللذين يقومان من بعدي وهما أبوبكر وعمر وحث على الاقتداء بهما لحسن سيرتهما وصدق سريرتهما، وفي الحديث إشارة لأمر الخلافة( ).
ت- عن أبي هريرة عن رسول الله قال: بينما أنا نائم أريت أني أنزع على حوضي أسقي الناس فجاءني أبوبكر فأخذ الدلو من يدي ليروحني فنزع الدلوين وفي نزعه ضعف والله يغفر له فجاء ابن الخطاب فأخذ منه فلم أر نزع رجل قط أقوى منه حتى تولى الناس والحوض ملآن يتفجر( ).
قال الشافعي رحمه الله: رؤيا الأنبياء وحي وقوله: وفي نزعه ضعف قصر مدته وعجلة موته وشعله بالحرب لأهل الردة عن الافتتاح والتزيد الذي بلغه عمر في طول مدته( ).
ث- قالت عائشة: قال لي رسول الله في مرضه: (ادعي لي أبابكر، وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمى متمن ويقول قائل: أنا أولى. ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر)( ).
دل هذا الحديث دلالة واضحة على فضل الصديق حيث أخبر النبي بما سيقع في المستقبل بعد التحاقه بالرفيق الأعلى وأن المسلمين يأبون عقد الخلافة لغيره وفي الحديث إشارة أنه سيحصل نزاع ووقع كل ذلك كما أخبر عليه الصلاة والسلام ثم اجتمعوا على أبي بكر ( ).
ج- عن عبيد الله بن عبدالله قال: دخلت على عائشة فقلت لها: ألا تحديثيني عن مرض رسول الله قالت: بلى ثقل النبي فقال: أصلى بالناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله. قال: ضعوا لي ماء في المخضب( ). ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء( )، فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله فقال: ضعوا لي ماء في المخضب ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمى عليه ثم أفاق فقال: أصلى الناس. قلنا: لا وهم ينتظرونك يارسول الله؟ قالت: والناس عكوف في المسجد ينتظرون رسول الله لصلاة العشاء الآخرة قالت: فأرسل رسول الله الى أبي بكر أن يصلي بالناس فأتان الرسول فقال: إن رسول الله يأمرك أن تصلي بالناس فقال: أبوبكر، وكان رجلاً رقيقاً: ياعمر صلِ بالناس قال: فقال: عمر أنت أحق بذلك قالت: فصلى بهم أبوبكر تلك الأيام ثم إن رسول الله وجد في نفسه خفة فخرج بين رجلين أحدهما العباس لصلاة الظهر وأبوبكر يصلي بالناس فلما رآه أبوبكر ذهب ليتأخر فأومأ إليه النبي أن لا يتأخر وقال لهما: أجلساني الى جنبه. فأجلساه الى جنب أبي بكر وكان أبوبكر يصلي وهو قائم بصلاة النبي والناس يصلون بصلاة أبي بكر والنبي قاعد. قال عبيدالله: فدخلت على عبدالله بن عباس فقلت له: ألا أعرض عليك ماحدثتني عائشة عن مرض رسول الله قال: هات فعرضت حديثها عليه فما أنكر منه شيئاً غير أنه قال: أسمت لك الرجل الذي كان مع العباس قلت: لا قال: هو علي( ).
هذا الحديث اشتمل على فوائد عظيمة منها: فضيلة أبي بكر الصديق وترجيحه على جميع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين وتفضيله، وتنبيه على أنه أحق بخلافة رسول الله من غيره ومنها أن الإمام إذا عرض له عذر عن حضور الجماعة استخلف من يصلي بهم وأنه لا يستخلف إلا أفضلهم، ومنها فضيلة عمر بعد أبي بكر لأن أبابكر لم يعدل الى غيره( ).
د- قال عبدالله بن مسعود : لما قبض رسول الله قالت الأنصار:منا أمير ومنكم أمير قال: فأتاهم عمر فقال: يامعشر الأنصار، ألستم تعلمون أن رسول الله قد أمر أبابكر يؤم الناس فأيكم تطيب نفسه أن يتقدم أبابكر فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبابكر( ).
هـ- روى ابن سعد بإسناده الى الحسن قال: قال علي: لما قبض النبي نظرنا في أمرنا فوجدنا النبي قد قدم أبابكر في الصلاة فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله لديننا فقدمنا أبابكر( ).
وقد علق أبو الحسن الأشعري على تقديم رسول الله لأبي بكر في الصلاة فقال: وتقديمه له أمر معلوم بالضرورة من دين الاسلام قال: وتقديمه له دليل على أنه أعلم الصحابة وأقرؤهم لما ثبت في الخبر المتفق على صحته بين العلماء: أن رسول الله قال: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة، فإن كانوا في السنّة سواء فأكبرهم سناً، فإن كانوا في السن سواء فأقدمهم إسلاماً) - قال ابن كثير- وهذا من كلام الأشعري رحمه الله مما ينبغي أن يكتب بماء الذهب ثم قد اجتمعت هذه الصفات كلها في الصديق وأرضاه( ).
هذا ولأهل السنّة قولان في إمامة أبي بكر من حيث الإشارة إليها بالنص الخفي أو الجلي، فمنهم من قال: إن إمامة أبي بكر ثابتة بالنص الخفي والإشارة وهذا القول ينسب الى الحسن البصري رحمه الله تعالى وجماعة من أهل الحديث( )، وهو رواية عن الامام أحمد بن حنبل( )، رحمة الله عليه واستدل أصحاب هذا القول بتقديم النبي له في الصلاة وبأمره بسد الأبواب إلا باب أبي بكر، ومنهم من قال: إن خلافة أبي بكر ثابتة بالنص الجلي وهذا قول طائفة من أهل الحديث( )، وبه قال أبومحمد بن حزم الظاهري( )، واستدل هذا الفريق بحديث المرأة التي قال لها: إن لم تجديني فأتي أبابكر( )، وبقوله لعائشة رضي الله عنها: ادعي لي أبابكر وأخاك حتى أكتب كتاباً فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل أنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إلا أبابكر( )، وحديث رؤياه : أنه على حوض يسقى الناس فجاء أبوبكر فنزع الدلو من يده ليروحه)( ).
والذي أميل إليه ويظهر لي من خلال البحث: أن المصطفى يأمر المسلمين بأن يكون الخليفة عليهم من بعده أبابكر وإنما دلهم عليها لإعلام الله سبحانه وتعالى له بان المسلمين سيختارونه لما له من الفضائل العالية التي ورد بها القرآن والسنّة وفاق بها غيره من جميع الأمة المحمدية وأرضاه( ).
قال ابن تيمية رحمه الله: والتحقيق أن النبي دل المسلمين على استخلاف أبي بكر وأرشدهم إليه بأمور متعددة من أقوله وأفعاله وأخبر بخلافته إخبار رضي بذلك حامد له وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه فترك الكتاب اكتفاء بذلك... فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه رسول الله بياناً قاطعاً للعذر ولكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبابكر هو المتعين وفهموا ذلك حصل المقصورد ولهذا قال عمر بن الخطاب في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار: وليس فيكم من تقطع إليه الأعناق مثل أبي بكر...) الى أن قال: (فخلافة أبي بكر الصديق دلت النصوص الصحيحة على صحتها وثبوتها ورضا الله ورسوله له بها وانعقدت بمبايعة المسلمين له واختيارهم إياه اختياراً استندوا فيه الى ماعملوه من تفضيل الله ورسوله فصارت ثابتة بالنص والإجماع جميعاً لكن النص دل على رضا الله ورسوله بها وأنها حق وأن الله أمر بها وقدرها وأن المؤمنين يختارونها وكان هذا أبلغ من مجرد العهد بها لأنه حينئذ كان يكون طريق ثبوتها مجرد العهد، وأما إذا كان المسلمون قد اختاروه من غير عهد ودلت النصوص على صوابهم فيما فعلوه ورضا الله ورسوله بذلك كان ذلك دليلاً على أن الصديق كان فيه من الفضائل التي بان بها عن غيره ماعلم المسلمون به أنه أحقهم بالخلافة فإن ذلك لايحتاج فيه الى عهد خاص( ).
8- انعقاد الإجماع على خلافة الصديق :
أجمع أهل السنّة والجماعة سلفاً وخلفاً على أن أحق الناس بالخلافة بعد النبي أبوبكر الصديق لفضله وسابقته ولتقديم النبي إياه في الصلوات على جميع الصحابة وقد فهم أصحاب النبي مراد المصطفى عليه الصلاة والسلام من تقديمه في الصلاة فأجمعوا على تقديمه في الخلافة ومتابعته ولم يتخلف منهم أحد ولم يكن الرب جل وعلا ليجمعهم على ضلالة فبايعوه طائعين وكان لأوامره ممتثلين ولم يعارض أحد في تقديمه( )، فعندما سئل سعيد بن زيد متى بويع أبوبكر؟ قال: يوم مات رسول الله : كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة( )، وقد نقل جماعة من أهل العلم المعتبرين إجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من أهل السنّة والجماعة على أن أبابكر أولى بالخلافة من كل أحد( ) وهذه بعض أقوال أهل العلم:
أ- قال الخطيب البغدادي -رحمه الله- أجمع المهاجرون والأنصار على خلافة أبي بكر قالوا له: ياخليفة رسول الله ولم يسم أحد بعده خليفة، وقيل: إنه قبض النبي عن ثلاثين ألف مسلم كل قال لأبي بكر: ياخليفة رسول الله ورضوا به من بعده رضي الله عنهم( ).
ب- وقال ابو الحسن الأشعري: أثنى الله -عز وجل- على المهاجرين والأنصار والسابقين الى الاسلام، ونطق القرآن بمدح المهاجرين والأنصار في مواضع كثيرة وأثنى على أهل بيعة الرضوان فقال عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (سورة الفتح، الآية 18). قد أجمع هؤلاء الذين أثنى الله عليهم ومدحهم على إمامة أبي بكر الصديق وسموه خليفة رسول الله وبايعوه وانقادوا له وأقروا له بالفضل وكان أفضل الجماعة في جميع الخصال التي يستحق بها الإمامة من العلم والزهد وقوة الرأي وسياسة الأمة وغير ذلك( ).
جـ-وقال عبدالملك الجويني: أما إمامة أبي بكر فقد ثبتت بإجماع الصحابة فإنهم أطبقوا على بذل الطاعة والإنقياد لحكمه ... وماتخرص به الروافض من إبداء علي شراساً( )، وشماساً( ) في عقد البيعة له كذب صريح، نعم لم يكن في السقيفة وكان مستخلياً بنفسه قد استفزه الحزن على رسول الله ثم دخل فيما دخل الناس فيه وبايع أبا بكر على ملأ من الأشهاد( ).
د-وقال أبو بكر الباقلاني في معرض ذكره للإجماع على خلافة الصديق : وكان مفروض الطاعة لإجماع المسلمين على طاعته وإمامته وانقيادهم له حتى قال أمير المؤمنين علي عليه السلام مجيبا لقوله لما قال: أقيلوني فلست بخيركم، فقال: لانقيلك ولانستلقيلك قدمك رسول الله لديننا ألا نرضاك لدنيانا يعني بذلك حين قدمه للإمامة في الصلاة مع حضوره وإستنابته في إمارة الحج فأمرك علينا وكان أفضل الأمة وأرجحهم إيماناً وأكملهم فهماً وأوفرهم علماً( ).
9-منصب الخلافة والخليفة:
الخلافة الإسلامية هي المنهج الذي اختارته الأمة الإسلامية وأجمعت عليه طريقةً وأسلوباً للحكم تنظم من خلاله أمورها وترعى مصالحها، وقد ارتبطت نشأة الخلافة بحاجة الأمة لها واقتناعها بها، ومن ثم كان إسراع المسلمين في اختيار خليفة لرسول الله ، يقول الإمام أبو الحسن الماوردي: إن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة وحاط به الملة، وفوض إليه السياسة ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة وانتظمت به مصالح العامة حتى استثبتت به الأمور العامة، وصدرت عنه الولايات الخاصة( ).
لقد كان على الأمة الإسلامية أن تواجه الموقف الصعب الذي نشأ عن انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، وأن تحسم أمورها بسرعة وحكمة وألا تدع مجالاً لانقسام قد يتسرب منه الشك إلى نفوس أفرادها أو للضعف أن يتسلل إلى أركان البناء الذي شيده رسول الله ( ).
ولما كانت الخلافة هي نظام حكم المسلمين فقد استمدت أصولها من دستور المسلمين، من القرآن الكريم ومن سنّة النبي ( )، وقد تحدث الفقهاء عن أسس الخلافة الاسلامية فقالوا بالشورى والبيعة وهما أصلاً قد أشير إليهما في القرآن الكريم( )، ومنصب الخلافة أحياناً يطلق عليه لفظ الامامة أو الإمارة وقد أجمع المسلمون على وجوب الخلافة، وأن تعيين الخليفة فرض على المسلمين يرعى شؤون الأمة ويقيم الحدود ويعمل على نشر الدعوة الاسلامية وعلى حماية الدين والأمة بالجهاد وعلى تطبيق الشريعة وحماية حقوق الناس ورفع المظالم وتوفير الحاجات الضرورية لكل فرد. وهذا ثابت بالقرآن والسنّة والإجماع( ).
وقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (سورة النساء، الآية: 59).
وقال تعالى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} (سورة ص، الآية: 26).
وقال : من خلع يداً من طاعة لقى الله يوم القيامة لاحجة له( ) ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية( ).
وأما الاجماع فالصحابة رضوان الله عليهم لم ينتظروا حتى يتم دفن الرسول وتوافدوا للاتفاق على إمام أو خليفة وعلل أبوبكر قبول هذه الأمانة وهو خوفه أن تكون فتنة أي من عدم تعيين خليفة للمسلمين( ) قال الشهرستاني في ذلك: (مادار في قلبه ولا في قلب أحد أنه يجوز خلو الأرض من إمام) فدل ذلك كله على أن الصحابة وهم الصدر الأول كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لابد من إمام، فذلك الإجماع على هذا الوجه دليل قاطع على وجوب الامام( ).
هذا وليس صحيحاً مايروجه الحاقدون أن الطمع في الرئاسة سبب الانشغال بالخلافة عن دفن النبي ( ).
هذا وقد عرّف ابن خلدون الخلافة: (هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع الى اعتبارها بمصالح الآخرة فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة هذا الدين وسياسة الدنيا به)( ).
وقد تحدث العلامة ابوالحسن الندوي عن شروط خلافة النبي ومتطلباتها، وقد أثبت بالأدلة والحجج من خلال سيرة الصديق بأن أبابكر كانت شروط خلافة النبي متحققة فيه ونذكر هذه الشروط بإيجاز وبدون ذكر الشواهد التي ذكرها الندوي وقد بينتها في هذا الكتاب متناثرة، فأهم هذه الشروط:
أ- يمتاز بأنه ظل طول حياته بعد الاسلام متمتعاً بثقة رسول الله به وشهادته له، واستخلافه إياه في القيام ببعض أركان الدين الأساسية، وفي مهمات الأمور، والصحبة في مناسبات خطرة دقيقة لايستصحب فيها الإنسان إلا من يثق به كل الثقة، ويعتمد عليه كل الاعتماد.
ب- يمتاز هذا الفرد بالتماسك والصمود في وجه الاعاصير والعواصف التي تكاد تعصف بجوهر الدين ولبه، وتحبط مساعي صاحب رسالته، وتنخلع لها قلوب كثير ممن قوى إيمانهم وطالت صحبتهم، ولكن يثبت هذا لفرد في وجهها ثبوت الجبال الراسيات، ويمثل دور خلفاء الأنبياء الصادقين الراسخين، ويكشف الغطاء عن العيون، وينفض الغبار عن جوهرة الدين وعقيدته الصحيحة.
ج- يمتاز هذا الفرد في فهمه الدقيق الاسلام، ومعايشته له في حياة النبي على اختلاف أطواره وألوانه من سلم وحرب، وخوف وأمن، ووحدة وإجتماع، وشدة ورخاء.
د- يمتاز بشدة غيرته على أصالة هذا الدين وبقائه على ماكان عليه في عهد نبيِّه، غيرة أشد من غيرة الرجال على الأعراض والكرامات، والأزواج والأمهات، والبنين والبنات، لايحوله عن ذلك خوف أو طمع أو تأويل أو عدم موافقة من أقرب الناس وأحبهم إليه.
س- يكون دقيقاً كل الدقة وحريصاً أشد الحرص في تنفيذ رغبات الرسول الذي يخلفه في أمته بعد وفاته، لايحيد عن ذلك قيد شعرة، ولا يساوم فيه أحداً، ولايخاف لومة لائم.
و- يمتاز بالزهد في متاع الدنيا والتمتُّع به، زهداً لا يُتصُّور فوقه إلا عند إمامه وهاديه سيد الانبياء عليه الصلاة والسلام، وأن لايخطر بباله تأسيس الملك والدولة وتوسيعهما لصالح عشيرته وورَثَته، كما اعتادت ذلك الأسر الملوكية الحاكمة في أقرب الدول والحكومات من جزيرة العرب، كالروم والفرس( ).
وقد اجتمعت هذه الصفات والشروط كلها في سيدنا أبي بكر ، كما تمثلت في حياته وسيرته في حياة الرسول قبل الخلافة وبعد الخلافة الى أن توفاه الله تعالى، بحيث لايسع منكراً أن ينكره أو مشكِّكا يشكك في صحته، فقد تحقق بطريق البداهة والتواتر( ).
هذا وقد قام أهل الحل والعقد في سقيفة بني ساعدة ببيعة الصديق بيعة، خاصة ثم رشحوه للناس في اليوم الثاني وبايعته الأمة في المسجد البيعة العامة( ).
وقد افرز مادار في سقيفة بني ساعدة مجموعة من المبادئ منها: أن قيادة الأمة لاتقام إلا بالاختيار، وأن البيعة هي أصل من أصول الاختيار وشرعية القيادة، وأن الخلافة لا يتولاها إلا الأصلب ديناً والأكفأ إدارة، فاختيار الخليفة يكون وفق مقومات إسلامية، وشخصية، وأخلاقية، وأن الخلافة لاتدخل ضمن مبدأ الوراثة النسبية أو القبلية، وإن إثارة (قريش) في سقيفة بني ساعدة باعتباره واقع يجب أخذه في الحسبان، ويجب اعتبار أي شيء مشابه مالم يكن متعارضاً مع أصول الاسلام، وأن الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة قام على قاعدة الأمن النفسي السائد بين المسلمين حيث لاهرج ولا مرج، ولا تكذيب ولا مؤامرات ولا نقض للاتفاق، ولكن تسليم للنصوص التي تحكمهم حيث المرجعية في الحوار الى النصوص الشرعية( ).
وقد استدل الدكتور توفيق الشاوي على بعض الأمثلة التي صدرت بالشورى الجماعية في عهد الراشدين من حادثة السقيفة حيث قال:
• أول ماقرره اجتماع يوم السقيفة هو أن (نظام الحكم ودستور الدولة) يقرر بالشورى الحرة، تطبيقاً لمبدأ الشورى الذي نص عليه القرآن، ولذلك كان هذا المبدأ محل إجماع، وسند هذا الإجماع النصوص القرآنية التي فرضت الشورى، أي أن هذا الاجماع كشف وأكد أول أصل شرعي لنظام الحكم في الاسلام وهو الشورى الملزمة، وهذا أول مبدأ دستوري تقرر بالإجماع بعد وفاة رسولنا ، ثم إن هذا الاجماع لم يكن إلا تأييداً وتطبيقاً لنصوص الكتاب والسنّة التي أوجبت الشورى .
• تقرر يوم السقيفة أيضاً أن اختيار رئيس الدولة أو الحكومة الاسلامية وتحديد سلطاته يجب أن يتم بالشورى، أي البيعة الحرة التي تمنحه تفويضاً ليتولى الولاية بالشروط والقيود التي يتضمنها عقد البيعة الاختيارية الحرة - الدستور في النظم المعاصرة-، وكان هذا ثاني المبادئ الدستورية التي أقرها الإجماع، وكان قراراً إجماعياً كالقرار السابق.
• تطبيقاً للمبدأين السابقين، قرر اجتماع السقيفة اختيار أبي بكر ليكون الخليفة الأول للدولة الاسلامية( ).
ثم إن هذا الترشيح لم يصح نهائياً إلا بعد أن تمت له البيعة العامة، أي موافقة جمهور المسلمين في اليوم التالي بمسجد الرسول ، ثم قبوله لها بالشروط التي ذكرها في خطابه الذي ألقاه( )، وسنأتي على ذلك بالتفصيل بإذن الله تعالى.
المبحث الثاني
البيعة العامة، وإدارة الشؤون الداخلية
أولاً: البيعة العامة:
بعد أن تمت بيعة أبي بكر البيعة الخاصة في سقيفة بني ساعدة، كان لعمر في اليوم التالي موقف في تأييد أبي بكر وذلك في اليوم التالي حينما اجتمع المسلمون للبيعة( ) العامة قال أنس بن مالك: لما بويع أبي بكر في السقيفة وكان الغد جلس ابوبكر على المنبر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمدالله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ماكانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهداً عهده الى رسول الله ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا -يقول يكون آخرنا- وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسوله ، فإن عصيتم به هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ثاني أثنين إذ هما في الغار فقوموا فبايعوه فبايع الناس أبابكر بعد بيعة السقيفة فتكلم أبوبكر فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله ثم قال: أما بعد أيها الناس فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لايدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قومٍ إلا عمّهم الله بالبلاء، أطيعوني ماأطعت الله ورسوله فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا الى صلاتكم يرحمكم الله( ).
وقال عمر لأبي بكر يومئذ: اصعد المنبر، فلم يزل به حتى صعد المنبر فبايعه الناس عامة( ).
وتعتبر هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الاسلامية على إيجازها وقد قرر الصديق فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد( )، من خلال الخطبة والأحداث التي تمت بعد وفاة الرسول يمكن للباحث أن يستنبط بعض ملامح نظام الحكم في بداية عهد الخلافة الراشدة والتي من أهمها:
1- مفهوم البيعة:
عرّف العلماء البيعة بتعاريف عدة منها تعريف ابن خلدون: العهد على الطاعة لولي الأمر( )، وعرفها بعضهم بقوله: البيعة على التعاقد على الاسلام( )، وعرفت كذلك بأنها أخذ العهد والميثاق والمعاقدة على إحياء ماأحياه الكتاب والسنّة، وإقامة ماأقامه( )، وكان المسلمون إذا بايعوا الأمير جعلوا أيديهم في يده، تأكيداً للعهد والولاء، فاشبه ذلك الفعل البائع والمشتري، فسمى هذا الفعل بيعة( ).
ونتعلم من مبايعة الأمة للصديق بأن الحاكم في الدولة الاسلامية إذا وصل الى الحكم عن طريق أهل الحل والعقد وبايعته الأمة بعد أن توفرت فيه الشروط المعتبرة، فيجب على المسلمين جميعاً مبايعته والاجتماع عليه، ونصرته على من يخرج عليه، حفظاً على وحدة الأمة وتماسك بنيانها أمام الأعداء في داخل الدولة الاسلامية وخارجها( ).
قال : (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)( )، فهذا الحديث فيه حث على وجوب إعطاء البيعة والتوعد على تركها، فمن مات ولم يبايع عاش على الضلال ومات على الضلال( ).
وقال رسول الله : (ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فيطعه مااستطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر)( ).
فالشارع الحكيم قد رتب القتل وأمر به، نتيجة الخروج على الامام مما يدل على حرمة هذا الفعل، لأنه بطلب بيعة أخرى بالبيعة الاولى التي هي فرض على المسلمين( ).
والذي يأخذ البيعة في حاضرة الدولة هو الخليفة. وأما في الأقاليم فقد يأخذها الإمام، وقد يأخذها نواب الإمام، كما حدث في بيعة الصديق ، فأهل مكة والطائف أخذها نواب الخليفة.
والذي تجب بيعتهم للإمام هم أهل الحل والعقد، وأهل الاختيار من علماء الأمة وقادتها، وأهل الشورى وأمراء الأمصار وأما سائر الناس وعامتهم فيكفيهم دخولهم تحت بيعة هؤلاء، ولا يمنع العامة من البيعة بعد بيعة أهل الحل والعقد( )، وهناك من العلماء من قال لابد من البيعة العامة لأن الصديق لم يباشر مهامه كخليفة للمسلمين إلا بعد البيعة العامة له من المسلمين( ).
والبيعة بهذا المعنى الخاص الذي تمّ للصديق لا تعطي إلا للإمام الأعظم في الدولة الاسلامية ولاتعطى لغيره من الأشخاص سوءا في ظل الدولة الإسلامية أو عند فقدها، لما يترتب على هذه البيعة من أحكام( )، وخلاصة القول أن البيعة بمعناها الخاص هي إعطاء الولاء والسمع والطاعة للخليفة مقابل الحكم بما أنزل الله تعالى، وأنها في جوهرها وأصلها عقد وميثاق بين طرفين؛ الإمام من جهة وهو الطرف الأول، والأمة من جهة ثانية وهي الطرف الثاني، فالإمام يبايع على الحكم بالكتاب والسنّة والخضوع التام للشريعة الاسلامية عقيدة وشريعة ونظام حياة، والأمة تبايع على الخضوع والسمع والطاعة للإمام في حدود الشريعة.
فالبيعة خصصية من خصائص نظام الحكم في الاسلام تفرد به عن غيره من النظم الاخرى في القديم والحديث. ومفهومه أن الحاكم والأمة كليهما مقيد بما جاء به الاسلام من الأحكام الشرعية، ولا يحق لأحدهما سواء كان الحاكم أو الأمة ممثلة بأهل الحل والعقد، الخروج على أحكام الشريعة أو تشريع الأحكام التي تصادم الكتاب والسنّة، أو القواعد العامة في الشريعة ويعد فعل مثل ذلك خروجاً على الاسلام، بل إعلان الحرب على النظام العام للدولة الاسلامية بل أبعد من هذا نجد أن القرآن الكريم نفى عنهم صفة الايمان( )، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (سورة النساء، الآية:65).
فهذا مفهوم البيعة من خلال عصر أبي بكر الصديق .
2- مصدر التشريع في دولة الصديق:
قال أبوبكر : أطيعوني ماأطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم( )، فمصدر التشريع عند الصديق :
أ- القرآن الكريم:
قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} (سورة النساء، الآية:105).
فهو المصدر الاول الذي يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشؤون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاماً قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل مايحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.
ب- السنّة المطهرة:
هي المصدر الثاني الذي يستمد منه الدستور الاسلامي أصوله ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن( ).
إن دولة الصديق خضعت للشريعة وأصبحت سيادة الشريعة الاسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الاسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لايتقدم ولايتأخر عنها( ).
ففي دولة الصديق وفي مجتمع الصحابة، الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم ولهذا قيد الصديق طاعته التي طلبها من الأمة بطاعة الله ورسوله، لئن رسول الله قال: (لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف)( ).
3- حق الأمة في مراقبة الحاكم ومحاسبته:
قال ابوبكر : فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني( ).
فهذا الصديق يقرّ بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي( )، وقد أقرّ الصديق في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لايستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وان آخر رسول كان يتلقى الوحى انتقل الى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته كنبي ومن صفته كرسول يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته وبعد وفاته أصبح الحكم والسلطة مستمدة من عقد البيعة وتفويض الأمة له( ).
إن الأمة في فقه أبي بكر لها إدارة حية واعية لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الرعية نُصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الامام ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم، وأن يكرّم فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله، تستوجب تبجيله وإجلاله وإكرامه وتبجيله، إجلالاً وإكراماً لشرع الله الذي ينافع عنه ويدافع عنه. قال رسول الله : (إن من إجلال الله تعالى: إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير المغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)( )، والأمة واجب عليها أن تُناصح ولاة أمرها قال : (الدين النصحية
-ثلاثاً-) قال الصحابة: لمن يارسول الله؟ قال: (لله -عز وجل- ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)( )، ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق وترجمت ذلك الى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره، والشيء المحزن أن كثيراً من الدول الاسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم، فعظم مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلق الذي يعم معظم ديار المسلمين ماهو إلا نتيجة لتسلط بغيض، (ودكتاتورية) لعين، أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها، وزرعت بها الجبن والفزع إلا من رحم ربي، وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته تأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض، فتنطلق الى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله( ).
4- إقرار مبدأ العدل والمساواة بين الناس:
قال أبو بكر : الضعيف فيكم قوي عندى حتى أرجع عليه حقه إن شاء الله والقوي فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله( ).
إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم ومن أهم هذه القواعد، الشورى والعدل، والمساواة والحريات، ففي خطاب الصديق للأمة أقرّ هذه المبادئ، فالشورى تظهر في طريقة اختياره وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع، بمحضر من جمهور المسلمين وأما عدالته فتظهر في نص خطابه ولاشك أن العدل في فكر أبي بكر هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي فلاوجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولايعرف العدل.
إن إقامة العدل بين الناس أفراداً وجماعات ودولاً، ليست من الأمور التطوعية التي تترك لمزاج الحاكم أو الأمير وهواه، بل إن إقامة العدل بين الناس في الدين الإسلامي تعد من أقدس الواجبات وأهمها، وقد أجمعت الأمة على وجوب العدل( ) قال الفخر الرازي -رحمه الله- أجمعوا على أن من كان حاكماً وجب عليه أن يحكم بالعدل( ).
وهذا الحكم تؤيده النصوص القرآنية والسنة النبوية. إن من أهداف دولة الإسلام إقامة المجتمع الإسلامي الذي تسود فيه قيم العدل والمساواة ورفع الظلم ومحاربته، بكافة أشكاله وأنواعه، وعليها أن تفسح المجال وتيسر السبل أمام كل إنسان يطلب حقه أن يصل إليه بأيسر السبل وأسرعها دون أن يكلفه ذلك جهد أو مال وعليها أن تمنع أي وسيلة من الوسائل من شأنها أن تعيق صاحب الحق من الوصول إلى حقه.
لقد أوجب الإسلام على الحكام أن يقيموا العدل بين الناس دون النظر إلى لغاتهم أو أوطانهم أو أحوالهم الإجتماعية فهو يعدل بين المتخاصمين ويحكم بالحق، ولايهمه أن يكون المحكوم لهم أصدقاء أو أعداء، أغنياء أو فقراء عمالاً أو أصحاب عمل( )، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (سورة المائدة، آية:
.
لقد كان الصديق قدوة في عدله يأسر القلوب ويبهر الألباب، فالعدل في نظره دعوة عملية للإسلام فيه تفتح قلوب الناس للإيمان، لقد عدل بين الناس في العطاء، وطلب منهم أن يكونوا عوناً له في هذا العدل، وعرض القصاص من نفسه في واقعة تدل على العدل والخوف من الله سبحانه( )، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص : أن أبا بكر الصديق قام يوم جمعة فقال: إذا كنا بالغداة فأحضروا صدقات الإبل نقسمها، ولايدخل علينا أحد إلا بإذن، فقالت امرأة لزوجها خذ هذا الخطام لعل الله يرزقنا جملاً، فأتى الرجل فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قد دخلا إلى الإبل فدخل معهما، فالتفت أبو بكر فقال: ما أدخلك علينا؟ ثم أخذ منه الخطام فضربه، فلما فرغ أبو بكر من قسم الإبل دعا الرجل فأعطاه الخطام وقال: استقد .. فقال عمر: والله لايستقد ولاتجعلها سنة، قال أبو بكر فمن لي من الله يوم القيامة؟ قال عمر: أرضه، فأمر أبو بكر غلامه أن يأتيه براحلة ورحلها وقطيفة وخمسة دنانير فأرضاه بها( ).
وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيداً لمبدأ المساواة قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (سورة الحجرات، آية:13).
إن الناس جميعاً في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء( )، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه( ).
وكان ينفق من بيت مال المسلمين فيعطي كل مافيه سواسية بين الناس، فقد روى ابن سعد وغيره أن أبا بكر ، كان له بيت مال بالسُّنح معروف، ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه؟ فقال: لايخاف عليه، قيل له: ولم؟ قال: عليه قفل! وكان يعطي مافيه حتى لايبقى فيه شيئاً، فلما تحوّل إلى المدينة حوّله معه فجعله في الدار التي كان فيها، وقدم عليه مال من معدن من معادن جُهينة، فكان كثيراً، وانفتح معدن بني سليم في خلافته، فقدم عليه منه بصدقة فكان يضع ذلك في بيت المال، فيقسمه بين الناس سوّياً، بين الحر والعبد، والذكر والأنثى، والصغير والكبير على السواء. قالت عائشة رضي الله عنها: فأعطى أول عام الحرّ عشرة والمملوك عشرة، وأعطى المرأة عشرة، وأمتها عشرة، ثم قسم في العام الثاني، فأعطاهم عشرين عشرين، فجاء ناس من المسلمين فقالوا: ياخليفة رسول الله: إنك قسمت هذا المال فسوّيت بين الناس، ومن الناس أناس لهم فضل وسوابق وقدم، فلو فضلت أهل السوابق والقدم والفضل. فقال: أما ماذكرتم من السوابق والقدم والفضل فما أعرفني بذلك وإنما ذلك شئ ثوابه على الله جلّ ثناؤه، وهذا معاش، فالأسوة فيه خير من الأثرة( ) فقد كان توزيع العطاء في خلافته على التسوية بين الناس، وقد ناظر الفاروق عمر أبا بكر في ذلك فقال: أتسوي بين من هاجر الهجرتين وصلى إلى القبلتين، وبين من أسلم عام الفتح؟ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ للراكب.
ورغم أن عمر غيّر في طريقة التوزيع فجعل التفضيل بالسابقة إلى الإسلام والجهاد إلا أنه في نهاية خلافته قال: لو استقبلت من أمري مااستدبرت لرجعت إلى طريقة أبي بكر فسويت بين الناس( ).
وكان يشتري الإبل والخيل والسلاح، فيحمل في سبيل الله، واشترى عاماً قطائف (القطيفة كساء مخمل) أتى بها من البادية، ففرقها في أرامل أهل المدينة في الشتاء وقد بلغ المال الذي ورد على أبي بكر في خلافته مائتي ألف وزعت في أبواب الخير( ).
لقد اتبع ابو بكر المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس وراعى حقوق الضعفاء فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم فيتبعهم بسمع مرهف وبصر حاد وإرادة واعية لاتستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها .. إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم فيؤمن به كيان دولته ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة( ).
لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصديق سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل، آية:90).
أكان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ماقام الحاكم فيهم على أساس من العدل المجرد عن الهوى.
والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات، والتجرد لله تجرداً مطلقاً جعله يشعر بضعف الضعيف، وحاجة المجتمع ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه، وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها، ورقيقها بكل ما أتاه الله من يقظة وحذر( ).
وبناء على ماسبق يرفع العدل لواءه بين الناس، فالضعيف آمن على حقه، وكله يقين أن ضعفه يزول حينما يحكم العدل، فهو به قوي لايمنع حقه ولايضيع، والقوي حين يظلم يردعه الحق، وينتصف منه للمظلوم، فلا يحتمي بجاه أو سلطان أو قرابة لذي سطوة أو مكانة، وذلك هو العز الشامخ، والتمكين الكامل في الأرض( ).
وما أجمل ماقاله ابن تيمية رحمه الله: إن الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولاينصر الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة،... بالعدل تستصلح الرجال، وتستغزر الأموال( ).
5-الصدق أساس التعامل بين الحاكم والمحكوم:
قال أبو بكر : الصدق أمانة والكذب خيانة( ) أعلن الصديق مبدأ أساسياً تقوم عليه خطته في قيادة الأمة وهو: أن الصدق بين الحاكم والأمة هو أساس التعامل، وهذا المبدأ السياسي الحكيم له الأثر الهام في قوة الأمة حيث ترسيخ جسور الثقة بينها وبين حاكمها إنه خلق سياسي منطلق من دعوة الإسلام إلى الصدق قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (سورة التوبة، آية:119) ومن التحذير منه كقول رسول الله : ثلاثة لايكلمهم الله يوم القيامة ولايزكيهم ولاينظر إليهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر( ).
فهذه الكلمات (الصدق أمانة) اكتست بالمعاني، فكأن لها روحاً تروح بها وتغدو بين الناس، تلهب الحماس، وتصنع الأمل، (والكذب خيانة) وهكذا يأبى أبو بكر إلا أن يمس المعاني، فيسمي الأشياء بأسمائها، فالحاكم الكذاب هو ذلك الوكيل الخائن الذي يأكل خبز الأمة ثم يخدعها، فما أتعس حاكم يتعاطى الكذب فيسميه بغير اسمه، لقد نعته الصديق بالخيانة، وأنه عدو أمته الأول .. وهل بعد الخيانة من عداوة؟ حقا لازال الصديق يطل على الدنيا من موقفه هذا فيرفع أقواماً ويسقط آخرين! .. وتظل صناعة الرجال أرقى فنون الحكم! إذ هم عدة الأمة ورصيدها الذي تدافع به عن نفسها ملمات الأيام، ولاشك أن من تأمل كلمات أبي بكر تلك أصدقته الخبر بأن الرجل كان رائداً في هذا الفن الرفيع، فقد ك