في ايلول 1969 كنت معلما لأول مرة وكان عمري عشرين عاما، فقد مضى على تخرجي في دار المعلمين في حمص أقل من شهرين. كان تعييني في محافظة حلب، وتحديدا في قرية مكحلة، وهي من قرى مطخ حلب. ركبت الباص إلى اقرب مكان للقرية، فلم يكن يوجد طريق للقرية في ذلك الزمن، ثم تابعت سيري على الأقدام. قبل وصولي إلى القرية كان يوجد بيت منفرد وبعيد عنها بحدود 500 متر، وهنا كانت معركتي الأولى مع كلاب الحراسة، فقد هاجمني كلبان حسب خطة مسبقة حسدتهما عليها ورأيت أنّ الكثير من الناس تفتقد إلى هذا التخطيط، ولم أستطع انقاذ ساقيي منهما إلا بصعوبة، وبعد خروج صاحبة البيت التي أمرتهما بالعودة إلى البيت، وهذا ما كان فورا. تقدمت المرأة البدوية العجوز مني مبتسمة ومهدأة روعي، فكدت أرمي نفسي بين ذراعيها من شدة الخوف وتعبيرا عن شكرها، وقد لاحظت اندفاعي صوبها فتركت مسافة بيننا أفهمتني أن حدودي هنا، بسطت يدي لاسلم عليها فابقت يدها مقبوضة ففهمت بعد ثوان أنها لا تريد أن تسلم على غريب، ولكن فيما بعد تذكرت أنها احدى العادات الاسلامية التي كنت نسيتها نتيجة الانفعال والخوف من الكلبين. وصلت إلى القرية وقادني أحد الأطفال إلى المضافة، ومساء توافد سكان القرية من الرجال والاطفال الى المضافة للتعرف على المعلم الجديد الذي وجدوا صعوبة في نطق اسمه. كنت معلما وحيدا، أسكن في نفس الغرفة التي اسمها مدرسة. بعد أيام تعرفت على معلم القرية المجاورة، فزرته وزارني عدة مرات. احدى المرات قال لي: ان المشايخ سيأتون الاسبوع القادم من حلب الى القرية ليقوموا بضرب الشيش. ولما كانت المرة الاولى التي اسمع فيها بضرب الشيش، سألته ان يشرح لي ما معنى هذا، قال: إن هناك بعض الناس الصالحين الذين يضربون أنفسهم بالسيوف التي تخترق الصدور والبطون من طرف إلى الثاني دون أن يصابوا بأذى . قلت له: هذا مستحيل. قال: لقد رأيت ذلك بنفسي العام الماضي، وهو صحيح. قلت مستفسرا: هل يقومون بتنفيذ ضربات في مناطق قاتلة ولا يصابون بأي ضرر؟ قلت له كيف يبقون أحياء؟ قال بقدرة الله ولأنهم مسلمون. قلت له أنا لا أستطيع تصديق ذلك، وإذا حدث ورأيت ذلك بأم عيني فإنني على استعداد لاعلان اسلامي فورا أمام الناس.
مضت الأيام ونسيت حديث ضرب الشيش وانشغلت في المدرسة والطلاب الذين يتغيبون عن الدروس بسبب ذهابهم مع أهاليهم لقطف القطن، وكنت في الوقت نفسه أكتشف مندهشا كيف أن سكان القرية يستخدمون في حياتهم اليومية مفردات لغوية أجدها في الشعر الجاهلي الذي كنت أدرسه في الجامعة، فقد كنت سنة أولى أدب عربي في جامعة دمشق، وبدأت وقتها الكثير من الاسئلة تطرح نفسها علي مثل : كيف يمكن لمفردات لغوية أن تستمر لأكثر من ألف وأربعمائة عام في بعض المناطق وعند بعض السوريين وتختفي في مناطق أخرى حيث يستخدم السوريون الآخرون مفردات تعود في جذورها إلى الآرامية أو التركية أو الفارسية أو السريانية أو الكردية. كانت الاسئلة تتعقد دون أن أجد إجابات شافية لبعضها.
أحد أيام الأربعاء بعد الظهر أطل الاستاذ أحمد، معلم القرية الثانية، شربنا الشاي وخرجنا نسير باتجاه قريته، حيث يعلم للسنة الثانية فيها، وهو من أبناء المنطقة، قال لي: غدا مساء سيحضر المشايخ لضرب الشيش، فهل تريد أن تحضر السهرة، لقد تحدثت إلى المختار وقلت له أنك إذا رأيت بعينك ضربة قاتلة ولم يمت الشخص فإنك ستعلن إسلامك أمام أهل القرية، ، فهل لا زلت عند كلامك ؟ فاجآني السؤال، وأنا الذي كنت أظن أن المسألة لا تتعدى النكتة، فكرت قليلا وقلت في نفسي: لا تكن جبانا يا ميخائيل فالأمر مستحيل، قلت لأحمد بعد أن سحبت نفسا عميقا : لا زلت عند موقفي، تستطيع نقله إلى المختار، وعليه أن ينقل شروطي
إلى المشايخ.
لم أكن اتخيل أن حديثي عن الاسلام وضرب الشيش، وأنا ابن العشرين عاما، قد أصبح حديث القرى المجاورة كلها، ولهذا عندما توجهت بعد ظهر الخميس أنا والأستاذ أحمد، الذي جاء لمرافقتي، والسيد خلف مستخدم المدرسة إلى القرية الثانية، كانت الوفود من القرى المجاورة في طريقها إلى سهرة ضرب الشيش، ولكن هده السنة لسببين كبيرين : رؤية المعلم المسيحي الذي سيعلن إسلامه، لأنهم كانوا على ثقة من قدرات المشايخ وحجتهم القوية في إقناع الكفار، ورؤية ضرب الشيش .
وأنا في الطريق، لم أستطع اخفاء قلقي، كنت أحدث الأستاذ أحمد، الذي كان يزيدني بعام، ولكن عقلي كان في مكان آخر. كنت اتساءل : ماذا لو كنت مضطرا أن أعلن إسلامي ؟ لم يكن يزعجني تغيير الدين، فأنا لست متعصبا لدين ما أو لنقل لمسيحيتي، ولم تكن عائلتي تقوم باى ممارسات دينية باستثناء الأعياد والزيجات والوفيات، وكنت في هذا الجانب الاجتماعي للدين يتساوى عندي المسيحي بالاسلامي، فأنا مسلم بقدر ما أنا مسيحي، ولكن المحيط الاجتماعي هو ما كنت مضطرا أن أحسب حسابه، وخاصة مشاعر أبي الذي أحبه جدا. أخيرا كسر حاجز الصمت الأستاذ أحمد قائلا: هل أنت خائف ميخائيل ؟ قلت له مكابرا: لا، ولماذا أخاف ؟ قال: لأنك ستعلن إسلامك. قلت له : إسمع يا أحمد، أنا لست مطلعا على الإسلام بشكل جيد، ولكن عندي من المعلومات ما يكفي كي أقول أن هؤلاء المشايخ نصابين ويستخدمون الدين لمصالحهم الشخصية . قال: كيف ؟ قلت، حسب معرفتي المتواضعة، الإسلام دين العقل، وبالتالي فمن غير الممكن أن يستطيع هؤلاء المشايخ أن ينفذوا ضربات قاتلة ثم يقولوا أنهم لم يموتوا بسبب إيمانهم بالإسلام . إن هذا الموقف يسحب عن الإسلام جانبه العقلاني، وهذا ما يجعلني أقول أنهم نصابون، وبالتالي فأنا مطمئن إلى أنهم لن يستطيعوا تنفيذ شروطي . وعلى إفتراض أنهم استطاعوا ذلك فأنا أظن أن عيون وعقل شاعر هي من ترى وتحبك خرافة أو أسطورة يجبها الناس، وليس عيون وعقل المؤمن الناقد الذي يؤمن ب (اعقل وتوكل) . صمت أحمد وصمتت، فقد اقتربنا من مضافة القرية حيث ستجري الحفلة .
كان الوقت قد اقترب من المغيب، وكان عشرات الرجال والنساء والأطفال يحيطون بالمضافة من الخارج . دخلنا إلى المضافة التي تتسع لعشرين شخصا تقريبا. كان هناك أربعة مشايخ، ثلاثة منهم شباب بعمر العشرينات، وكانت دورية من الشرطة مؤلفة من شرطيين جاؤوا للفرجة وليس لحفظ الأمن، والباقي هم مخاتير القرى القريبة وبعض الوجهاء، مع بعض الضيوف من حلب الذين يحضورون عادة في موسم قطف القطن لاسترداد ديونهم التي هي في أعناق الفلاحين على شكل قطن، ثم شراء ما يتبقى منه بسعر بخس ..
جلسنا أنا والأستاذ أحمد والشرطيين في زاوية المضافة القريبة من الشباكين الملاصقين تقريبا للأرض، وقام احمد بالذهاب الى الجهة الأخرى حيث المشايخ وبلغهم من أكون . كانت الضجة والصخب في خارج المضافة قد بدأ بشكل منفصل تماما عما يحدث في الداخل . بدأت السهرة ببعض الأناشيد الدينية متوافقة مع الدف ، وبدأ الجو يزداد انفعالا مع تسارع كلمات الأناشيد وقرع الدفوف .. كنت متيقظا لأقصى الحالات ، فلا أريد أن أسمح لأحد أن يضحك علي ، ويدفعني أن أعلن اسلامي مجانا هكذا . قام أحدث المشايخ سنا بخلع كلابيته البيضاء والدوران حول نفسه انسجاما مع الجو االحماسي، ثم أخذ سيكارة مشتعلة ووضعها في فمه وبدأ بلوكها فقامت القيامة، وبدأ الصراخ في الداخل والخارج، نظر في وجهي الأستاذ أحمد مستفسرا عن رأيي فيما حدث ، فقلت هذا سخيف، ما معنى ان تأكل سيكارة مشتعلة !! وكانت المرحلة الثانية أكثر صخبا في الأناشيد الدينية وقرع الدف وصراخ الناس، فقد أخذ الشيخ الشاب نفسه سيخا شبيها بسيخ شوي اللحمة، مدبب الرأس وفتح فهمه ثم قام بادخال السيخ في جلدة الوجه من الداخل وضغط فخرج الشيخ ثاقبا الحنك إلى الخارج . هنا لم تعد تسمع شيئا، فقد علا الصراخ في الخارج مختلطا مع بكاء الاطفال وشهيق النساء وتكبير الرجال . أما في الداخل فقد كان الرجال ينظرون غير مصدقين ما حدث . كانت حواسي مستنفرة ومستفزة ومستغربة . كنت أرى كيف تتركب الخرافة قطعة وراء الأخرى ، في عقول الناس البسطاء من أجل حفنة من الليرات أو بعض شوالات القطن .
نظر إلي أحمد هذه المرة نظرة المنتصر أمام هذا الفعل الخارق . كان من سوء تدبير المشايخ أن وضع الشيخ الشاب الشيش أو السيخ في النافذة القريبة ، فمددت يدي وأخذته وتلمسته ، ثم، أمام الحميع ، فتحت فمي كما فعل الشيخ ووضعت الشيش وضغت عليه إلى أن كاد يخرج من الجهة الخارجية ، وأخذت يد أحمد لأجعله يلمسه ففعل ثم قام وذهب إلى المشايخ وتكلم معهم .
قام شيخ أخر من الشباب وخلع كلابيته وبدأت موجة جديدة من الأناشيد والدف والحماس، ثم تناول شيشا يشبه الآخر وبدأ يداعبه مع صراخ الناس والعويل الواصل من الخارج والذين لا يرون شيئا، فجمع طبقات الدهن على خاصرته اليمين بين يديه وأدخل الشيش من طرف فخرج من طرق آخر، ثم بسط طبقات الدهن فبدا وكأن الشيش يدخل من الأمام ليخرج من الظهر، والحقيقة أنه كان خارج القفص الصدري. طلبت من الشيخ أن يقترب منا فمررت أصابعي على القسم المختفي من السيخ وطلبت من أحمد ان يفعل الشيء نفسه، ثم قلت له: قل للمشايخ يا أحمد أننا لم نر شيئا مما اتفقنا عليه، حتى قصة بقع الدماء التي قالوا أنها لن تخرج، هاهي في وجهه الشيخ الأول وعلى كلابية الشيخ الاخر، فاين هي الضربة القاضية التي تكلمنا عنها؟
نقل لهم الاستاذ أحمد ما قلته بامانة، فكان ردهم: أن الشيخ الكبير ليس هنا ليقوم بما يطلبه الاستاذ من ضربة قاضية، أما مسألة الدم وخروجه فسببه وجود شخص غير طاهر في المضافة...
ابتسمت سعيدا بانتصاري وإحساسي أنني كسبت أحمد إلى جانبي .
كانت الاشاعة أسرع من الصاروخ، فقد أراد هؤلاء الذين يتسترون بالدين للمارسة التجارة وسرقة الفقراء، أن يلغوا من ذاكرة الفلاحين البسطاء الإحساس بالفشل الذي عاشوه مع معلم شاب، فاشاعوا أن هذا المسيحي (عدو) للاسلام ويجب على مختار القرية التي يعلّم بها أن يشكوه إلى التربية، وإن بقي هنا فقد تتآثر محاصيل القطن وووو
قال لي أحمد بعد مدة أن الناس الذين كانوا خارج المضافة في قريته عندما حدثت واقعة الشيش كانوا يقسمون على القرآن الكريم أنهم رأؤوا بأم أعينهم كيف كان الشيخ يدخل سيفا كاملا في بطنه ليخرج من ظهره دون أن يتأثر أو يصاب بألم أو جرح رغم وجود رجل غير طاهر في الجلسة.
هذه القصة الحقيقية حدثت منذ 42 سنة في قرية فلاحية بسيطة، تعالوا نطبقها الآن على ما حدث في مؤتمر القاهرة للمعارضة، وسنرى التشبيح وضرب الشيش على أبو موزة.