إن خطورة ما يجري على الأرض السورية لا يقتصر على ما تنتجه من قتل بالجملة عبر المجازر المتنقلة ، وما تخلفه من تدمير كامل للمدن والبلدات وما يرافقها من تدمير وتعطيل للبنى التحتية التي هي بالأصل مهترئة وعاجزة عن استيعاب حاجات المجتمع السوري في حدودها الدنيا ، إن الأخطر فيما يجري يتعلق بالمراجعة الذاتية التي يجريها المواطن لنفسه وللمفاهيم التي يحملها ، هذه المراجعة التي ستفرز صياغة جديدة لأولياته وأهدافه وسلوكه الفكري والعملي وما يرافق ذلك من إعادة تحديد مواقع التضاد والتوافق ، وما يبنى على كل ذلك من سلوك مستقبلي لم يعد يخضع في الواقع لانتصار الثورة أو عدمه لأن كل الأوراق التي كانت مغطاة بطبقة هشة سقطت وإلى غير رجعة.
مجريات ما سمي بالربيع العربي على الرغم من ملامح الخريف القاسية التي تشوب فصله القائم قدمت وبشفافية ما كان المواطن العربي يشكك بصدق إحساسه ونتائج ملاحظاته التي سطرها في ذاكرته حول العداء التاريخي للصهاينة المحتلين ، وقد كشفت الأنظمة الديكتاتورية بشكل سافر عن تمثيلية هذا العداء التاريخي والمستحكم ، ففي ليبيا تم تحذير إسرائيل من زوال سلطة الحاكم وفي سوريا تم تحذير إسرائيل من زوال النظام ، وفي مصر تبين أن المعاهدة لم تكن إلا غطاء لما أخفته بين سطورها .
لابد أن العداء مستحكم بين الشعب العربي بغالبيته وبين الدولة الإسرائيلية ، إلا أن هذا العداء يستحضر أيضاً كل العمليات القتالية التي جرت بين العرب وبين الإسرائليين ويستحضر أيضاً كل الممارسات الوحشية والهمجية للكيان الصهيوني ، وهنا تكمن خطورة المقارنة بين همجيات إسرائيل وهمجيات الديكتاتوريات العربية وممارساتها تجاه شعوبها المنتفضة على ذلها .
في سوريا ، هذه المقاربة ونتائجها السلبية لن تؤثر إيجابياً في صورة إسرائيل المرسومة في الجمجمة العربية ، ولكنها بنفس الوقت تعيد حسابات المواطن العربي السوري على أسس جديدة على رأسها تحديد العدو المرحلي ، وما يتبعه من إمكانية ترسيخ فكرة العداء التاريخي تجاه فئة من المجتمع السوري كنتيجة لانخراط معظم هذه الفئة في عمليات القتل والاغتصاب والتهجير والتشريد والسرقة والتجويع الممارسة على أبناء الشعب السوري .
النظام بطبعه ـ وهنا نعني مركز القرار الحقيقي الذي يمتلك القوة الفعلية على الأرض ـ كرس من خلال ممارساته السابقة مفهوم الطائفة الحاكمة أياً كانت المبررات التي يسوقها البعض من انتهازيي المجتمع السوري ، فكل مفاصل القرار الحيوية بيد ثلة قليلة سواء في مجال السياسة الداخلية والخارجية أو على مستوى الاقتصاد أو على مستوى التوجيه الاجتماعي " التربية والثقافة والفنون " وبالتالي فقد نجح النظام في جعل شباب الجبال الفقيرة والمعدومة حطباً لوقود معركته المصيرية بالنسبة له ، دون الالتفات إلى مصير هذه الفئة التي ورطها منذ بدايات حكمه حتى اليوم ، والأمثلة على الأرض كثيرة وأخص هنا معظم المسلسلات المنتجة التي كانت تحمل رسائل واضحة ، في جانب منها محاولة امتصاص الغضب المتراكم وفي وجهها الآخر القوة والسيطرة التي يتمتع بها النظام ،كان الكثير منا يضحك منفعلاً مع المشاهد في الوقت الذي تتجذر في قاع دماغه قوة النظام وأمنه التي شكلت ذلك الجدار الثخين والمرتفع كحاجز بين المواطن وحلم حريته وكرامته .
إن الموضوعية والإنصاف يتطلب منا أن لا نحمل الثورة فقط هموم الغد الآتي ، فالثورة هدفها إسقاط النظام ، سقط النظام ... وبعد ذلك ؟
ردود الفعل الناتجة عن ألم المعاناة الفريدة من نوعها ، هل تكفي الشعارات التي نطرحها حول وحدة الداخل ، ووعي المواطن السوري ، لاستيعاب ردود الفعل هذه على أرض الواقع غداً ؟؟؟ اكتشافات المقابر الجماعية ، والجهل بمصير المفقودين والمغيبين وصور الدمار الرهيب الذي أصاب بيوتاً شكلت أحلام العمر لأصحابها ، أن ترى أثاث بيتك الذي بيع بأسواق استحدثت للإمعان في تجذير الكراهية والعداء ، أن تحتضن المغتصبات ، وأن تبحث عن الأطفال الذين شردوا دونما هوية تعريف بهم ، كل هذه القضايا تنتظر مجتمعنا غداً .
وعلى أرض الواقع ماذا حضرنا لاستيعاب هذا الكم الهائل من التساؤلات ، إن العمل الإغاثي اليوم لا يتعدى محاولة تطويق معاناة آنية فقط بينما الصورة القابعة في الداخل هي ماتحتاج إلى عمل إغاثي حقيقي وفاعل لتجنيب المجتمع حالة رعب التجربة اللبنانية ، فهل نستطيع ؟؟؟؟
03/07/2012