الطريق الى دولة العصابة 18: أزمة العائلة

الطريق الى دولة العصابة 18: أزمة العائلة

بعد “انتصاره” على الثورة الفلسطينية في لبنان وبعد طرد المقاومين الفلسطينيين نهائياً من بلاد اﻷرز، على يد اﻷسد شمال الليطاني وٳسرائيل في جنوب ذات النهر، وبعدما سحق كل معارضة داخلية سلمية أو مسلحة و في غمرة انشغال جلاد العراق بحربه العبثية مع ٳيران، أصبح في يد اﻷسد من القوة واﻷوراق ما لم يتوفر لحاكم سوري قبله وذلك منذ سقوط الحكم اﻷموي في دمشق.
اﻷسد صار سيد سوريا ولبنان دون منازع ، ودون الحاجة ٳلى التعامل مع أي كان من أجل السيطرة على الداخل السوري واللبناني. لم يكن كافياً لحافظ أن يكون الرجل القوي الوحيد بين الفرات والمتوسط فزاد عليه “وساطته ” مع ٳيران لصالح طمأنة دول الخليج التي تورطت في دعم الرئيس العراقي المهووس ، صدام حسين.
اﻷسد ، وليس سوريا ، أصبح اللاعب المحوري في الشرق اﻷوسط فهو الوحيد الذي يتمتع في نفس الوقت بدعم غير محدود من أمريكا وٳسرائيل والاتحاد السوفييتي وٳيران ! الرجل الذي كان بمقدوره ٳزعاج اﻷسد كان صدام و اﻷخير غارق لركبه في الدماء الٳيرانية والعراقية دون مخرج على المدى المنظور. اﻷسد كان محاطاً بالأصدقاء من كل جهة.
في الداخل السوري ، كان العمل جارياً على قدم وساق لتحويل الرصيد الخارجي للأسد ٳلى دعائم لدولة العصابة اﻷسدية. هذه الدولة بنيت على شكل هرم، ككل مافيا تحترم نفسها. في القمة يتربع العراب دون منازع ، تحته مباشرة نجد اﻷقربون من “العائلة المالكة ” يليهم حاشية من اﻷصدقاء والخدم الخلّص ممن تتعلق حياتهم بنجاحهم في خدمة العصابة. حاشية بلاط اﻷسد تعج بالمقربين من كل الطوائف والملل من عسكريين وسياسيين ورجال مال وأعمال “من عظم الرقبة ” ولكل منهم دوره ومهماته المحددة لا يحيد عنها قيد أنملة، وٳلا..
بعد الحلقة الضيقة من الحاشية والتي تشمل قادة الجيش و اﻷمن والفرق العسكرية اﻷساسية لحماية النظام تأتي طبقة “النبلاء ” وهي مكونة من الضباط الكبار في الجيش واﻷمن وهؤلاء في أكثريتهم الساحقة من الطائفة العلوية المرتبط مصيرهم بمصير زعيم العصابة. تماماً كنبلاء القرون الوسطى، أفراد هذه الطبقة لهم ٳقطاعيات في سوريا ولبنان تتفاوت أهميتها ومواردها بحسب دور هؤلاء في حماية النظام وهم جزء أساسي في جهاز النهب المنظم والسطو على مقدرات الشعب. هذه الطبقة هي المنوط بها حماية النظام وأفرادها كلهم من الموثوق بهم وممن تلوثت أيديهم بالدماء.
بعد النبلاء تأتي طبقة الخدم من الدرجة الممتازة وهي طبقة هجينة طائفياً ومتحركة تتسع وتضيق بحسب حاجة العراب وبحسب مقتضيات المرحلة. بين هؤلاء الخدم يأتي رجال السياسة والاقتصاد واﻷعمال ٳضافة ٳلى الكوادر العليا الريفية في الحزب والدولة ورجال السلك الدبلوماسي وغيرهم. هؤلاء يعتمدون على الحماية التي توفرها لهم طبقة النبلاء ويعتاشون من فتات النظام ومن خيراته التي لا يستهان بها خاصة حين يتعطف عليهم سيد البلاد باحتكار ما أو “بقانون” يناسب طموحاتهم.
بعد وفاة حافظ جاء بشار وقام بتضخيم حجم ودور هذه الطبقة الطفيلية والسرطانية ، دون المساس بامتيازات و ٳقطاعيات طبقة النبلاء. هذا قد يفسر تدهور وضع الجماهير السورية التي وجدت نفسها ضحية لطبقات غير منتجة وذات شهية مفتوحة على الدوام، خاصة بعد طرد جيش الاحتلال اﻷسدي من لبنان وتعثر عمليات النهب في بلاد اﻷرز.
في أسفل السلم اﻷسدي نجد الذراع الضاربة للعصابة اﻷسدية وهي القوات المسلحة المشكلة طائفياً والخاضعة مباشرة لقيادات العائلة والطائفة والتي تم “تطعيمها ” بعناصر من طوائف أخرى بما لا يقلل من قدرتها على القيام بمهمات القتل حين اللزوم. هذه الذراع الضاربة تضم أيضاً ضباط اﻷمن الصغار وعناصرهم من المتطوعين ٳضافة ٳلى ضباط وصف ضباط الطائفة العلوية وبعض اﻷقليات اﻷخرى والمزروعين في قطعات مختلطة طائفياً. هؤلاء “المندسون” لهم دور أساسي في تفخيخ وٳفشال أي تحرك عسكري مزعج للنظام وهذا ما يفسر النفوذ الطاغي لضباط صغار أو متوسطي الرتب ، خاصة من العلويين ، مقابل تهميش ضباط كبار في ذات القطعة العسكرية. هذه الطبقة ذاتها تضم من يعرفون الآن باسم الشبيحة و بلطجية اﻷسد.
لنلاحظ أن اﻷسد توصل ٳلى وصفة سحرية تزاوج بين البنية المافيوية وممالك النمل !
حافظ اﻷسد اعتبر كوادر الحزب والمنظمات الشعبية وأفرادها كجزء من الذراع الضاربة لزمرته. ابنه بشار اعتبر هؤلاء كخدم صغار لا وزن لهم وهو ما يفسر قلة حماسهم في الدفاع عنه والوقوف ٳلى جانبه في محنته الحالية. لهذا اﻷمر أهميته حين ندرك أن نفوذ أي فرد في دولة العصابة اﻷسدية لا يتعلق لا برتبته ولا بمركزه العلني ، بل بطبقته وبمدى قربه من الدوائر العليا في عصابة اﻷسد.
مجلة “فورين بوليسي” اﻷمريكية تقدر عدد المرتبطين عضوياً بالنظام اﻷسدي ، أي أفراد طبقات الحاشية والنبلاء والخدم الممتازون بحوالي 3800 فرد وهو عدد مرتفع بمقاييس بلد فقير وصغير مثل سوريا.
بقية الشعب السوري بعماله وموظفيه وفلاحيه ووو… هم “رقيق ” لدى آل اﻷسد وزبانيتهم ، كلهم سواسية ، لهم الحق في الحياة والكسب فقط بحسب رغبة “سيد المقاومة والبلاد ” وحياتهم وموتهم رهن بمكرمات اﻷفّاق الذي يرأس العصابة اﻷسدية.
ماذا يحصل في أي مافيا حين يغيب “القط ” ولو لوهلة ؟ سوف تأتي الفئران لتلعب بذيلها…. هذا بالضبط ما حصل عام 1984 حين أصيب حافظ اﻷسد بأزمة قلبية. فوراً قفز الرجل الثاني في النظام مطالباً باحتلال مكان شقيقه “الفقيد ” حتى قبل أن يموت هذا اﻷخير!
لو كان اﻷسد مات حينها ، لكان رفعت وصل ٳلى السلطة دون صعوبات تذكر، فالرجل “سر أخيه “. على سبيل المثال “علي حيدر ” قائد الوحدات الخاصة لم يتراجع عن دعمه لرفعت حتى تأكد من أن حافظ لم يمت ! هذا بشهادة مصطفى طلاس شخصياً. نجاة حافظ من الموت جعلت داعمي النظام يفضلون المراهنة على ذات الحصان الرابح بدل الركض وراء سراب رفعت اﻷسد المخاتل.
رفعت استعجل الوصول ٳلى السلطة وتسرع في القفز لاحتلال مكان أخيه ، متسلحا بعلاقاته اﻷمريكية واﻹسرائيلية بعدما كان قد قابل “شارون” في واشنطن ، ٳضافة ٳلى صلاته المعروفة بالخليج وبتجار الشام.
طبقة النبلاء المناط بها حراسة النظام وجدت نفسها في حالة انقسام بين رفعت اﻷسد وزعرانه من جهة والخائفين من رفعت من جهة ثانية. رفعت ليس رجلاً توافقياً وليس لديه لا دهاء أخيه ولا صبره وٳن كان اﻹثنان في الشر سواء. الخدم والحاشية ممن يخافون من رفعت احتموا بقسم من “النبلاء ” الذين كان لديهم حسابات قديمة مع رفعت وكانوا يعلمون علم اليقين أن لا حياة ولا مستقبل لهم ٳن وصل اﻷخير ٳلى الحكم. ليست القضية قضية مبدأ أو كرامة شعب، بل مصالح شخصية وخوف على خسارة رؤوسهم وٳقطاعياتهم لصالح رفعت وجماعته.
“مصطفى طلاس ” يذكر : “أن رفعت وعدَ عناصر وضباط السرايا باستباحة دمشق لثلاثة أيام بلياليها ولا يسمح لهم بسرقة أي شيء بعد ذلك. من يأتي من سرايا الدفاع بعد ذلك شاكيا من الفقر سيقوم القائد رفعت بقطع يده…”. انتهت الاستعارة. هذا ليس بمستغرب من زعيم عصابة يريد أن يخلف آخر، أليس ما يجري في سوريا الثائرة اليوم تكراراً لذات “الوعد اﻷسدي” حين نرى النهب والاستباحة ، تماماً كما كان يفعل التتار أساتذة اﻷسد في القمع والقتل.
يدعي “باتريك سيل ” أن والدة اﻷسد “ناعسة ” هي التي حسمت الصراع سلمياً بين اﻷخوين بعدما أحضرها حافظ من القرداحة. والدة اﻷسد “أفتت ” بأن “لحافظ السلطة ولرفعت الثروة…”. تماماً كما كان يجري زمن السلاطين والقبائل الجاهلية. “مصطفى طلاس” يؤكد ذات الرواية ويضيف : “أن خزائن النظام كانت شبه خاوية وشهية رفعت واسعة ولكن الصديق معمر القذافي كان جاهزاً وبنفسية منفتحة فأقرض حافظ مبلغاً كان كافياً ﻹرضاء رفعت “. بحسب آخرين ، قام رفعت بنهب كامل رصيد البلد من القطع اﻷجنبي وأضاف له 300 مليون دولار “قرضة حسنة ” من العقيد الليبي قام حافظ اﻷسد فيما بعد بردها كاملة من أموال الشعب السوري للعقيد. هناك من يظن ، ومنهم دانيل لوغاك “أن رفعت قام أيضاً بالسطو على ما يعادل عامين من كامل الناتج الوطني السوري”.
ربما كانت “ناعسة” قد قامت فعلا بدور ما في مصالحة اﻷخوين على حساب البلد ، كعادة النظام في كل مناسبة ، لكن هذه اﻷزمة كانت لها نتائج مهمة على تطور دولة العصابة. اﻷسد أدرك أن أخوه قد أصبح خطراً على نظامه فرفعت قام بكشف المستور قبل اﻷوان بكثير وفضح بفجاجة الطبيعة العائلية المافيوية والطائفية المحضة للنظام.
من جهته ، أدرك اﻷسد أن الخطر الوحيد الذي يتهدد نظامه هو في انقسام الطائفة وتشققها وليس في أي تهديد آخر وأن رفعت أصبح عبئاً على الطائفة و النظام.
أزمة عام 1984 كانت أكبر تهديد واجهه نظام العصابة منذ نشوئه ، فالخارج كله متحالف أو متعاون مع النظام والداخل مسحوق. الخطر الداهم على النظام كان في اصطدام بين العائلة والطائفة ، أي في صراع داخلي على السلطة داخل بيت اﻷسد. حافظ اختار التحالف المرحلي مع الطائفة ضد رفعت وطموحه السلطوي. المشكلة أن نفي رفعت في الوقت الذي لا زال فيه “باسل” صغيراً وقليل الخبرة يجعل ظهر اﻷسد مكشوفاً أمام الطائفة. هذا ما أدركه حافظ حين جاءه “علي دوبا ” مهدداً في حال بقي رفعت في دمشق ومطالباً برأس اﻷخير. اختار اﻷسد أن يكتفي بنفي شقيقه في حين طالب جهابذة النظام برأس رفعت.
حافظ لم يقتل شقيقه ليس ﻷنه “حنون وأخوي ” ولكن ﻷن رفعت كان الوحيد القادر “ساعة الجد ” على ٳنقاذ توازنات النظام الخارجية واحترام تعهداته غير المكتوبة. لنتذكر أن “باسل اﻷسد ” كان شاباً يافعاً والنظام لم يكن متجذراً وقتها لدرجة تسمح بتوريث شاب غير ذي خبرة. لهذا بقي لرفعت منصب صوري كنائب للرئيس حتى عام 1998، وقت أصبح بشار جاهزاً لوراثة اﻷسد اﻷب كرئيس توافقي وشكلي للعصابة الحاكمة.
اﻷسد سيغير تكتيكاته بعد نفي رفعت وسيدفع بابنه “باسل ” لكي يحتل الموقع الذي كان يحتله عمه في قيادة فرق النخبة للنظام. في نفس الوقت سيباشر اﻷسد في التخلص بهدوء ومن دون ضجة من كل من كان قادراً على مواجهة “رفعت ” واستطراداً من قد يكون قادراً يوماً على عرقلة التوريث. بانتظار نضوج استراتيجيته الجديدة ، اضطر اﻷسد لٳرخاء قبضته جزئياً والتساهل مع أفراد الطائفة في الوقت الذي كان فيه يبحث عن تحالفات وتفاهمات جديدة.
صحيح أن أصدقاء اﻷسد في ٳسرائيل وأمريكا يدعمونه في كل المجالات ولكن هؤلاء لن يرسلوا جنوداً لحمايته في ساعة الجد و الروس قد يحمونه بجنودهم ولكن لحمايتهم ثمنٌ سياسي ما كان اﻷسد يريد دفعه بأي شكل من اﻷشكال.
لحسن حظ اﻷسد فأصدقاؤه الجدد في طهران كان وضعهم العسكري والاقتصادي قد تحسن بما يكفي لرد جزء من جميله. بالنسبة للأسد التحالف مع ٳيران الشيعية كان الخيار اﻷفضل بالنسبة لنظامه الفئوي والعنصري. اﻷسد كان قد لعب دوراً محورياً في مساعدة ٳيران على كسر عزلتها والتواصل مع “أعدائها ” في الغرب وأمريكا وٳسرائيل وساهم في حصار العراق من جهة الغرب. اﻷسد الذي جاهر بخطاب قومي عروبي تصرف كرئيس عشيرة علوي يحكم بلداً ذو غالبية سنية بواسطة أجهزة قمعية وبالاعتماد على طائفته بشكل أساسي. التحالف العضوي مع اﻷسد كان جد مناسب لطهران التي كان لها حساب دموي مع رئيس عشيرة سني يحكم بالقوة بلداً متعدد الطوائف ويقمع أكثرية شيعية !
العدو الصدامي المشترك للأسد ولطهران وحاجة كل منهما للآخر ٳضافة ٳلى مشاريع ٳيران المستقبلية ، كل هذا جعل من طهران الصديق المفضل للأسد.
طهران ستلبي طلب اﻷسد بسرور وسترسل مجموعة من حراس الثورة “البازدران” مع أسلحتهم وهم الذين سيتولون ضمان أمن اﻷسد وحراسة قصره الجمهوري انطلاقاً من معسكراتهم في البقاع وخاصة في وادي بردى قرب دمشق.
أصبح لدى اﻷسد “جيش ” ٳضافي لا يخضع سوى ﻷوامره و أوامر الوالي الفقيه ، مهمته ضمان حكم اﻷسد و حمايته من أي تحرك عسكري يقوم به “نبلاء ” عصابة اﻷسد. اﻷسد تحالف أولاً مع الطائفة العلوية ضد شقيقه ثم تفاهم مع ٳيران الشيعية للجم الطائفة !
في نفس الوقت ، قرر اﻷسد وأصدقاؤه الٳيرانيون ” توسيع ” تحالفهم وترسيخه ليشمل اﻷراضي اللبنانية “لمصلحة الجميع “. اﻷسد ما كان بمقدوره أن يرفض طلباً لحاميه اﻹيراني الجديد. حزب الله الذي كان وقتها في حالة جنينية سيولد من رحم هذا الحلف الطائفي.
د. أحمد الشامي

» دولة العصابة 20 : حارة الزعران on 24 أبريل, 2012 5:21 م in الطريق الى دولة العصابة, مقالات / لا يوجد
» الطريق الى دولة العصابة 7: حرب التكريس
» الطريق الى دولة العصابة 17: حلف الجزارين

الطريق الى دولة العصابة 18: أزمة العائلة

الطريق الى دولة العصابة 18: أزمة العائلة :: تعاليق

الطريق الى دولة العصابة 18: أزمة العائلة

مواضيع مماثلة

مواضيع مماثلة